عمر مكرم
المال في مصر هو محرك السياسة، واسألوا عمر مكرم ومحمد علي باشا
فقد أدى رحيل الفرنسيين عن مصر إلى عودة الوجوه القديمة لتتصدر ما يمكن تسميته مجازاً بقائمة أغنياء مصر، وأغلبهم من المماليك الذين يعيشون على السلب والنهب. غير أن هؤلاء لم يكونوا في أغلبهم أكثر ثراء من شخصية لعبت دورا مؤثراً في تلك الفترة المفصلية من تاريخ مصر: عمر مكرم
ولد عمر مكرم في أسيوط عام 1755، ثم انتقل إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف، وانتهى من دراسته وأصبح نقيباً لأشراف مصر في زمنه، عام 1793، وهي نقابة تضم المنتسبين لآل البيت، ويطلق على نقيبها لقب "السيد"، وكان يتمتع بمكانة عالية عند العامة والخاصة
ظهر عمر مكرم كقائد شعبي عندما قاد حركة شعبية ضد ظلم الحاكمين المملوكيين إبراهيم بك ومراد بك، عام 1795 مطالباً برفع الضرائب عن كاهل الفقراء وإقامة العدل في الرعية
وعندما اقترب الفرنسيون من القاهرة عام 1798 تولى عمر مكرم تعبئة الجماهير للمشاركة في القتال إلى جانب جيش المماليك. وفي هذا الصدد يقول الجبرتي: "وصعد السيد عمر مكرم أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقاً كبيراً أسمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة"
. ويعلق المؤرخ عبد الرحمن الرافعي (عصر محمد علي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2000) على ذلك بقوله: "وهذا هو بعينه استنفار الشعب إلى التطوع العام بعد هجمات الغازي المغير والسير في طليعة المتطوعين إلى القتال"
وعندما سقطت القاهرة بأيدي الفرنسيين، عرض عليه الفرنسيون عضوية الديوان الأول إلا أنه رفض ذلك. قرر عمر مكرم الرحيل عن القاهرة واتجه إلى بلبيس، وكان وجوده فيها عاملاً رئيسياً في إثارة مديرية الشرقية ضد الفرنسيين. وبعد هزيمة الصالحية في ربيع أول 1213هـ = أغسطس 1798م ارتحل إلى العريش، ومنها إلى غزة، فصادر نابليون بونابرت جزءاً من أمواله وأملاكه، ثم ألقي القبض عليه في يافا، فالتقاه نابليون، ووُضع تحت الإقامة الجبرية في دمياط؛ فكانت وفودٌ من الشعب تتردد عليه
عاد عمر مكرم بعد ذلك إلى القاهرة وتظاهر بالاعتزال في بيته، ولكنه كان يعد العدة مع عدد من علماء الأزهر وزعماء الشعب لثورة كبرى ضد الاحتلال الفرنسي.. تلك الثورة التي اندلعت في عام 1800 فيما يعرف بثورة القاهرة الثانية، وكان عمر مكرم من زعماء تلك الثورة. فلما خمدت الثورة اضطر إلى الهروب مرة أخرى خارج مصر حتى لا يقع في قبضة الفرنسيين الذين عرفوا أنه أحد زعماء الثورة، وظل
خارج البلاد حتى رحيل الحملة الفرنسية عام 1801
وقاد عمر مكرم المقاومة الشعبية ضد حملة فريزر الإنجليزية عام 1807، تلك المقاومة التي نجحت في هزيمة فريزر في الحماد ورشيد، ما دفع فريزر إلى الجلاء عن مصر. وفي هذا يقول الجبرتي: "نبه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز، حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس"
ويعلـق الرافعي على ذلك بقوله: "فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب، فإنك لترى هذا الموقف مماثلاً لموقفه عندما دعا الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام، ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع عن الزمان، فعلمهم في ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم"
كما قاد عمر مكرم النضال الشعبي ضد مظالم الأمراء المماليك عام 1804، وكذا ضد مظالم الوالي خورشيد باشا عام 1805. ففي يوم 2 مايو أيار 1805 بدأت تلك الثورة، حيث عمت الثورة أنحاء القاهرة واجتمع العلماء بالأزهـر وأضربوا عن إلقاء الدروس وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون، وبدأت المفاوضات مع الوالي للرجوع عن تصرفاته الظالمة فيما يخص الضرائب ومعاملة الأهالي، ولكن هذه المفاوضات فشلت، فطالبت الجماهير بخلع الوالي. وقام عمر مكرم وعدد من زعماء الشعب برفع الأمر إلى المحكمة الكبرى وسلم الزعماء صورة من مظالمهم إلى المحكمة، وهي ألا تفرض ضريبة على المدينة إلا إذا أقرها العلماء والأعيان، وأن يجلو الجند عن القاهرة وألا يسمح بدخول أي جندي إلى المدينة حاملاً سلاحه
وفي يوم 13 مايو قرر الزعماء في دار الحكمة عزل خورشيد باشا وتعيين محمد علي بدلاً منه بعد أن أخذوا عليه شرطاً: "بأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم وإلا يفعل أمراً إلا بمشورة العلماء وأنه متى خالف الشروط عزلوه"
وفي يوم 16 مايو 1805 صدرت فتاوى شرعية من المحكمة على صورة سؤال وجوابه بشرعية عزل الوالي خورشيد باشا، وانتهى الأمر بعزل هذا الوالي، ونجاح الثورة الشعبية
وكان عمر مكرم هو زعيم هذه الحركة الشعبية ومحركها، وفي ذلك يقول الرافعي: "كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون في تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف للسيد عمر مكرم فضله في هذه الحركة فقد كان بلا جدال روحها وعمادها" تولى محمد علي حكم مصر بتأييد الزعامة الشعبية التي قادها عمر مكرم وفق مبادئ معينة في إقامة العدل والرفق بالرعية، وكان من نتيجة ذلك أن تحملت الزعامة المسؤوليات والأخطار التي واجهت نظام محمد علي الوليد، ومنها أزمة الفرمان السلطاني بنقله إلى سالونيك، والحملة الإنجليزية على مصر سنة (1222هـ = 1807م)، وإجهاض الحركة المملوكية للسيطرة على الحكم في مصر؛ ففي هذه الأزمات الثلاث الكبرى كانت زعامة عمر مكرم تترسخ في وجدان المصريين؛ إذ رفض مساندة المماليك في تأليب الشعب ضد محمد علي، ورفض فرمانات السلطان العثماني بنقل الباشا إلى سالونيك فاحتمى محمد علي به من سطوة العثمانيين، وفي حملة فريزر قام عمر مكرم بتحصين القاهرة، واستنفر الناس للمقاومة، وكانت الكتب والرسائل تصدر منه وتأتي إليه، أما محمد علي فكان في الصعيد يتلكأ، وينتظر حتى تسفر الأحداث عن مسارها الحقيقي
أدرك محمد علي أن عمر مكرم يهدد مكانته في حكم مصر؛ فمن استطاع أن يرفعه إلى مصاف الحكام يستطيع أن يقصيه، ومن ثم أدرك أنه لكي يستطيع تثبيت دعائم ملكه وتجميع خيوط القوة في يده لا بد له أن يقوض الأسس التي يستند عليها عمر مكرم في زعامته الشعبية.. فعندما أعلن زعماء الشعب عن استعدادهم للخروج لقتال الإنجليز أجاب محمد علي: "ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر"
كانت العبارة صدمة كبيرة لعمر مكرم؛ إذ حصر دور الزعامة الشعبية في توفير علائف الحيوانات، ولكن حصافة الرجل لم تجعله يعلن خصومة محمد علي، وأرجع مقولة الباشا إلى أنها زلة لسان، وآثر المصلحة العامة لمواجهة العدوان؛ فقام بجمع المال؛ وهو ما وضعه في موقف حرج مع بعض طوائف الشعب
وصف الجبرتي مكانة عمر مكرم بقوله: "وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد علي باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع في الأمور الكلية والجزئية". فكان يجلس إلى جانب محمد علي في المناسبات والاجتماعات، ويحتل مركز الصدارة في المجتمع المصري، حتى إن الجماهير كانت تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه
التقت إرادة محمد علي في هدم الزعامة الشعبية مع أحقاد المشايخ وعدد من العلماء على عمر مكرم، وتنافسهم على الاقتراب من السلطة وتجميع ما تُلقي إليهم من فتات، في هدم هذه الزعامة الكبيرة؛ فقد دب التنافس والانقسام بين المشايخ حول المسائل المالية، والنظر في أوقاف الأزهر، وتولي المناصب، فتدهورت قيمتهم ومكانتهم عند الشعب، واستشرى الفساد بينهم
يقول الجبرتي عن هؤلاء المشايخ: "وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم يتكالبون على الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين"
استطاع محمد علي أن يجد طريقه بين هذه النفوس المريضة للوصول إلى عمر مكرم، بل إن هؤلاء المشايخ - وبينهم الشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الدواخلي- سعوا إلى السلطة الممثلة في محمد علي للإيقاع بعمر مكرم. ونقل الوشاة من العلماء إلى "الباشا" تهديد عمر مكرم برفع الأمر إلى "الباب العالي" ضد والي مصر، وتوعده بتحريك الشعب للثورة، وقوله: "كما أصعدته إلى الحكم فإنني قدير على إنزاله منه"
ولما نشبت بعض الخلافات حول بعض الأمور المالية المتعلقة بفرض الضرائب، وقف عمر مكرم إلى جوار الشعب وتوعد بتحريك الشعب إلى ثورة عارمة. ونقل الوشاة الأمر إلى محمد علي باشا الذي حاول بشتى الطرق كسب مكرم لتطويع إرادته وعدم تبني مطالب الشعب، وكان كل من عمر مكرم ومحمد علي باشا يعرف قدرة الآخر وشعبيته بين أهالي مصر. وكان أن أعد محمد علي باشا حساباً ليرسله إلى الدولة العثمانية يشتمل على أوجه الصرف، ويثبت أنه صرف مبالغ معينة جباها من البلاد بناء على أوامر قديمة. وأراد الباشا أن يعزز برهانه على صدق حساباته، فطلب من زعماء المصريين أن يكتبوا أسماءهم على ذلك الحساب وفي ذلك شهادة منهم بأوجه صرف تلك الأموال. وجاء دور عمر مكرم فرفض قائلاً: إن الضرائب المعتادة التي جمعها الباشا كانت تكفي لكل ما قام به من الأعمال العامة، وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يشهد بغير ذلك
وكان هذا هو الأمر الذي أرّق الباشا، ورأى أن عمر مكرم بذلك لا يدافع عن حقوق الناس وإنما يظهره بالمظهر غير اللائق أمام الدولة العثمانية وكأنه حاكم غير مؤتمن، وجد محمد علي أن هذه المواقف تمس مجده وشخصه، فعزم على أن يرسل في استدعاء عمر مكرم إلى مقابلته، فكان رد الأخير أن قال: إذا أراد الباشا أن يقابلني فلينزل هو من القلعة إلى بيت السادات ليلقاه هناك وبذلك تكون المقابلة على السواء.. ولكن الباشا وجد هذا الرد إهانة جديدة مسته، وكظم الباشا غيظه ولم يظهر رد فعله ونزل إلى بيت ابنه إبراهيم بك في المدينة وطلب من الزعماء الذهاب إليه هناك، وذهبوا جميعاً إلا عمر مكرم الذي اعتذر متعللاً بمرضه
هنا لم يستطع محمد علي باشا أن يتحمل أكثر فعزم على أن يوجه لعمر مكرم ضربة قاضية فأعلن في جمع حافل خلع عمر مكرم من نقابة الأشراف وتعيين الشيخ السادات ثم أمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط في (27 من جمادى الثانية 1224هـ = 9 من أغسطس 1809م)، وقبض العلماء الثمن في الاستحواذ على مناصب هذا الزعيم الكبير؛ ومن هنا جاءت تسمية الجبرتي لهم بـ"مشايخ الوقت". ويؤكد الجبرتي أن عصر محمد علي باشا اتسم برواج سوق النفاق، خصوصاً بعد أن أصدر محمد علي فرماناً بعزل عمر مكرم ونفيه إلى دمياط. ويذكر الجبرتي كيف أن الشيوخ أخذوا يبالغون في ذم الزعيم الوطني عمر مكرم "نفاقاً لمحمد علي" مع أن مكرم "كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلد.. يدافع عنهم.. ولم يزالوا بعده في انحطاط"
بعد نحو ثلاث سنوات بدأ محمد علي باشا في تطبيق سياسة مالية جديدة، وتجدد خوفه من زعامة عمر مكرم الذي كان قد عاد إلى القاهرة في (12 من ربيع الأول 1234هـ = 9 من يناير 1819م) وقد نالت منه السنون؛ فآثر الابتعاد عن الحياة العامة
وعندما انتفض القاهريون في (جمادى الآخرة 1237هـ = مارس 1822م) ضد الضرائب الباهظة، أرسل محمد علي أحد الضباط إلي بيت عمر مكرم في أثر النبي وكان نائماً، فأوقظه الضابط وقبّل يده ووقف متأدباً ونقل له الضابط رغبة الباشا في سفره إلى طنطا، فقال عمر مكرم: "متى أراد الباشا فأنا مستعد، وسأعد سفينة للسفر"، ولما أخبره الضابط أن كل شيء معد فقال: إذن لهم، وسافر في ذلك المساء منفياً إلى طنطا
لم يبق عمرمكرم في منفاه طويلاً حيث توفي في العام نفسه عن عمر يناهز ٧٠ عاماً
أما "مشايخ الوقت" فقد نالوا ما يستحقونه
فقد بطش بهم محمد علي واحداً تلو الآخر.. فالشيخ المهدي مثلاً حرمه محمد علي من تولي مشيخة الأزهر، بالرغم من انتخابه لهذا المنصب من قبل العلماء، والشيخ السادات الذي تولى نقابة الأشراف بعد عمر مكرم أهانه محمد علي بعد وفاته، وصادر كل أمواله وممتلكاته وهدد أرملته بإغراقها في النيل إذا لم تفصح عن حقيقة الثروة التي خلفها الشيخ المتوفى، والشيخ الدواخلي -الذي تولى نقابة الأشراف بعد السادات- عزله محمد علي من النقابة، ونفاه إلى دسوق
ويحكي الجبرتي في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار": "أنا أقول أن الذي وقع لهذا الدواخلي إنما هو قصاص وجزاء فعله في السيد عمر مكرم فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر والجزاء من جنس العمل كما قيل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
"ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي أظهر الكثير من نظرائه المتفقهين الشماتة والفرح وعملوا ولائم وعزائم ومضاحكات كما يقال"
وهكذا تكون النهايات لائقة بأعمال أصحابها