الخديوي اسماعيل
يعد الخديو إسماعيل الحاكم الأخير في أسرة محمد علي باشا الذي يضع اسمه في قائمة أغنياء مصر خلال القرن التاسع عشر
بدأ الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا (31 ديسمبر كانون أول 1830-2 مارس آذار 1895) حياته كأحد كبار الأغنياء في مصر، حتى أنه اشترى أملاك أخيه الأمير مصطفى بمبلغ مليوني جنيه، في وقتٍ كان فيه سعر الفدان لا يتجاوز 20 جنيهاً
غير أن ما يحسب للخديو إسماعيل أنه كان من فاعلي الخير البارزين في عصره. ولعل من أشهر الأوقاف التي خصصت للمساجد وقف الخديو إسماعيل الذي بلغت مساحته 10 آلاف فدان، ونصت وقفيته على أن "يصرف ريع ذلك في بناء وعمارة ومرمّات ومصالح مهمات، وإقامة الشعائر الإسلامية بالمساجد والمكاتب الكائنة بمصر المحروسة التي لا ريع لها، أو لها ريع لا يفي بالعمارات وإقامة الشعائر واللوازم لذلك من المساجد والمكاتب المرموقين...". وتعد وقفيات الخديو إسماعيل هي أكبر الوقفيات التي أنشئت في تاريخ مصر الحديث (د. إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر، دار الشروق، القاهرة، 1998)
كانت ثروة إسماعيل ضخمة للغاية، لكن أحلامه وتطلعاته كانت أكبر
ويتحدث المؤرخ إلياس الأيوبي (تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا، القاهرة، 1922) كيف راودت إسماعيل أحلامٌ بأن تكون مصر "قطعة من أوروبا"، وسعى إلى بناء إمبراطورية مصرية في إفريقيا. وفي سبيل تحقيق ذلك، قرر الرجل الذي حكم مصر بدءاً من 18 يناير كانون ثان عام 1863 ألا يصطدم بالدولة العثمانية، وأدرك أن المال أمضى من السيف في قضاء المصالح في الآستانة. وهكذا نجح في عام 1867 في الحصول من السلطان العثماني على لقب "خديو"، مقابل زيادة في الجزية، إضافة إلى فرمان آخر يقضي بتغيير نظام وراثة ولاية مصر من أكبر أبناء أسرة محمد علي إلى أكبر أبناء إسماعيل، ثم استصدر فرماناً آخر من السلطان يعترف بأن السودان وما يفتحه الخديو فيه من أملاك الخديوية المصريةكما حصل عام 1873 على فرمان يتيح له استقلالاً أكثر عن الحكم العثماني، وعُرِفَ بالفرمان الشامل وقضى بمنحه حق التصرف بحرية تامة في شؤون الدولة ما عدا عقد المعاهدات السياسية وعدم حق التمثيل الدبلوماسي وعدم صناعة المدرعات الحربية مع الالتزام بدفع الجزية السنوية التي بلغت قيمتها 750 ألف جنيه
غير أن خزانة مصر تكلّفت الكثير من الأموال بسبب مشروعات إسماعيل التنموية – مثل حفر قناة السويس وإنشاء دار الأوبرا والسكك الحديد وخطوط البريد وحديقة حيوان الجيزة وإقامة الكباري وشق الترع- وبذخه الزائد، ومن ذلك فاتورة الاحتفالات الأسطورية بافتتاح قناة السويس. وأدى ذلك إلى تراكم الديون على مصر، خاصة بعد انخفاض أسعار القطن انخفاضاً كبيراً بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية
حاول إسماعيل أن يسد العجز في الميزانية عن طريق الضرائب المختلفة، إلا أنه لم يفلح في ذلك، فلجأ إلى الاستدانة من الخارج. تدافعت البنوك والمؤسسات المالية على إقراضه، لكن سماسرة الديون وقناصل الدول أخذوا ما يقرب من 40 مليون جنيه إسترليني من قروض مصر البالغة 90 مليوناً؛ فتعثرت مصر عن السداد، واضطرت إلى بيع أسهمها في قناة السويس بمبلغ هزيل للإنجليز، وهو ما جعلها على حافة الإفلاس والخراب المالي
وفي ذلك يقول تقرير خبير الاقتصاد الإنجليزي ستيفن كيف الذي رئس لجنة لفحص مالية مصر في نهاية عام 1875: "إن المبالغ الحاصلة من ميزانية مصر عن المدة الواقعة بين سنة 1864 وسنة 1875 بلغت 94,21,400 جنيه، خصص منها لحملة الأسهم نحو ستة ملايين من الجنيهات، أي أن مخصصات الديون ابتلعت معظم الميزانية، وظهر في ميزانية تلك السنة عجز مقداره 1,382,200 جنيه، نشأ عن فداحة مخصصات الديون"
وما زاد الطين بِلة، أن الخديو إسماعيل لم يضع حداً بين أمواله وأموال الدولة، وكانت أملاك الدولة رهن إرادته، الأمر الذي زاد من سوء الأوضاع في ظل غياب حسن الإدارة
ويكفي أن نشير إلى أنه في عام 1873 بدأ الخديو إسماعيل في تشييد قصره الكبير بالزمالك "فندق ماريوت الآن" واستلزم البناء تحويل مجرى نهر النيل لعزل جزيرة "الزمالك" وإحاطتها بالماء من كل جانب، حتى يمر نهر النيل في قلب القاهرة على غرار مرور نهر السين بقلب باريس؛ لتصير حياة الخديو لها خصوصية مميزة
ويقول كثيرٌ من المؤرخين إن الضرائب ارتفعت في الفترة منذ نهاية حكم محمد على حتى عهد إسماعيل بدرجة كبيرة. فعلى سبيل المثال، بمقتضى القرار الأول الصادر في عهد سعيد، ارتفعت الضرائب على الأراضي المتوسطة والضعيفة إلى ما يوازى ثلث محصولها، وواصلت الضرائب ارتفاعها في عهد إسماعيل، فإلى جانب الضرائب المقررة استحدثت ضرائب إضافية جديدة مثل ضريبة الإعانة وضريبة السُدس وضريبة الري، وفق دراسة أعدها مركز الدراسات الاشتراكية بمصر
وقد كتب القاضي الهولندي فان بملن الذي عاش في عهد إسماعيل يقول: "إن الخديو إسماعيل هو أول من مهد السبيل لسيطرة أوروبا الاقتصادية على مصر، فإن أوروبا وبخاصة باريس، قد أفسدت على هذا الأمير دينه وأخلاقه وماله، وفتنته فتنة شاملة، فلم يعد يعنى إلا بكل ما هو أوروبي، وبكل ما يراه الأوروبيين واعتزم من يوم أن تولى عرش مصر أن يعيش كملك إفرنجي في قصوره وأثاثه، ومأكله ومظهره وملبسه، ومن الأسف أن كل ما أنفقه في هذا السبيل لم يعد بالفائدة إلا على أوروبا، إذ كان يستورد من مصنوعاتها تلك الأشياء الهالكة، العديمة الجدوى، وكان يدفع أثمانها أضعافاً مضاعفة، ولأجل أن يستوفى مطالبه الخارقة في هذا الصدد، لم تكفه الأموال التي يجبيها من شعبه على فداحتها فأمده أصدقاؤه الأوروبيون بالقروض الجسيمة ذات الشروط المخربة"
ولم يكن أمام الخديو إسماعيل بعدما فقد جميع وسائله لتدبير المال الكافي لسداد أقساط الديون إلا أن يعلن توقفه عن الدفع، فأصدر مرسوماً في 6 إبريل نيسان 1876 تم الإعلان عنه في بورصة الإسكندرية، يقرر فيه أن حكومته سوف "تؤجل" سداد أقساط ديونها لثلاثة شهور. بالطبع لم يكن تحديد هذه الأشهر الثلاثة إلا لكي تحافظ الحكومة على شكلها العام، إذ كانت الحكومة قد قررت أن تتوقف نهائياً عن السداد، وبدا توقف الحكومة المصرية عن الدفع بمنزلة إعلان إفلاسها رسمياً
ومع تصاعد الأزمة المالية، أنشأت الدول الدائنة "صندوق الدَين" في مايو 1876، ثم نظام "المراقبة الثنائية" في نوفمبر 1876، ثم "لجنة التحقيق الأوروبية" في يناير 1878، التي طالبت بضرورة تنازل الخديو عن أطيانه وأطيان عائلته كرهن لسداد الديون. ويخبرنا المؤرخ عبد الرحمن الرافعي (عصر إسماعيل، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة،1987) أنه مع اشتداد الأزمة المالية في مصر في عام 1874، خاف الخديو إسماعيل أن يحجز الدائنون الغربيون على أملاكه، فوزعها على زوجاته وأولاده
تم إذاً تعيين مراقبَين ماليين: أحدهما إنجليزي، والآخر فرنسي؛ لمراقبة إيرادات ومصروفات البلاد، بل إن وزارة نوبار باشا دخلها وزيران أوروبيان لأول مرة في تاريخ مصر
وانتهى الأمر إلى طلب الدائنين فرض الوصاية المالية الكاملة على مصر، وأن يكون لسداد الديون الأولوية المطلقة. وأدى هذا التعنت الأوروبي إلى انتفاضة وطنية تلقائية في (ربيع آخر 1296 هـ = إبريل 1879م) جمعت قادة وطوائف الشعب المصري المختلفة، دعوا خلالها إلى اكتتاب عام لسداد قسط الدين الذي تعثرت الدولة في سداده، ويبلغ 1.5 مليون جنيه إسترليني، وتم تحصيله على الفور وسداده
ودعا هؤلاء أيضاً إلى إقامة حياة نيابية كاملة، والعمل على سداد الديون والوقوف أمام التدخل الأجنبي، والتقوا الخديو إسماعيل الذي أقر مطالبهم، وهو ما أثار مخاوف الدول الغربية، وقدم قنصلا بريطانيا وفرنسا إنذاراً إلى إسماعيل بأن يرجع عن تأييد المشروع الوطني، وإلا فإنهما سيعملان على عزله
وإزاء رفضه، تحالفت الدول الأوروبية مع السلطان العثماني على ضرورة عزل الخديو إسماعيل عن حكم مصر، وأصدر السلطان فرمانه في 26 يونيو حزيران 1879 بعزل إسماعيل عن الحكم، وتنصيب ابنه الأكبر محمد توفيق باشا على مصر . وجاء نص التلغراف الذي ورد من الآستانة كالتالي"إلى سمو إسماعيل باشا خديو مصر السابق
"إن الصعوبات الداخلية والخارجية التي وقعت أخيراً في مصر قد بلغت من خطورة الشأن حداً يؤدي استمراره إلى إثارة المشكلات والمخاطر لمصر والسلطنة العثمانية؛ ولما كان الباب العالي يرى أن توفير أسباب الراحة والطمأنينة للأهالي من أهم واجباته ومما يقضيه الفرمان الذي خولكم حكم مصر، ولما تبين أن بقاءكم في الحكم يزيد المصاعب الحالية، فقد أصدر جلالة السلطان إرادته بناء على قرار مجلس الوزراء بإسناد منصب الخديوية المصرية إلى صاحب السمو الأمير توفيق باشا وأرسلت الإرادة السنية في تلغراف آخر إلى سموه بتنصيبه خديوياً لمصر، وعليه أدعو سموكم عند تسلمكم هذه الرسالة إلى التخلي عن حكم مصر احتراماً للفرمان السلطاني "
ثلاثة أيام أمضاها إسماعيل في الاستعداد للسفر، وجمع كل ما استطاع من المال والمجوهرات والتحف الثمينة من القصور الخديوية، ونقلها إلى اليخت "المحروسة"، وهي الباخرة نفسها التي أقلته من قبل مراتٍ عدة إلى سواحل أوروبا وهو في قمة المجد. ولأن السلطان العثماني رفض استقبال الخديو المخلوع في الآستانة فقد غادر اسماعيل مصر يوم 30 يونيو حزيران 1879 متجهاً مع زوجاته وحاشيته من الإسكندرية إلى نابولي، وهي المدينة نفسها التي استقبلت حفيده فاروق في 26 يوليو تموز 1952. لم ييأس إسماعيل، وظل يرسل التماساً وراء الآخر من منفاه في أوروبا، حتى تعطّف السلطان عبد الحميد الثاني أخيراً ووافق على حضوره للآستانة التي انتقل اليها عام 1888 للإقامة بقصر إميرجان المطل على البوسفور
وبعدما قضى نحو 16 عاماً في منفاه، لم يعد إسماعيل إلى مصر إلا ميتاً، حيث دُفِنَ في مسجد الرفاعي
وإذا كان إجمالي ديون عهد إسماعيل باشا بلغ 91 مليون جنيه، فإن "أفندينا" ظل حتى وفاته ينعم بلقب أغنى رجال مصر