محمد محمود خليل
ضرب الكساد الكبير الولايات المتحدة - والعديد من دول العالم- في أكتوبر عام 1929 نتيجة للانهيار المالي الضخم في بورصة الأوراق المالية في نيويورك، والمعروف باسم "الثلاثاء الأسود"، وانتهى في أوقاتٍ متفاوتة - بحسب كل بلدٍ- ما بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي
اعتبر خبراء الاقتصاد تلك الأزمة أكبر كسادٍ اقتصادي يضرب العالم في القرن العشرين، ونظروا إليه في القرن الحادي والعشرين كنموذج على المدى الذي يمكن أن ينهار به الاقتصاد العالمي
كان لهذه الكارثة الاقتصادية آثارها القوية على الاقتصاد المصري، باعتبارها إحدى المستعمرات التي تدور فى فلك إنجلترا إحدى دول المركز، وأيضاً لارتباط العملة المصرية بالجنيه الإسترليني. ظهرت أولى آثار الأزمة الاقتصادية في مصر على شكل انخفاضٍ رهيب في أسعار القطن وصعوبة بالغة في تسويقه
وليس مثل القطن من محصولٍ زراعي لعب دوراً خطيراً في التأثير على تاريخ مصر الاقتصادي
ويتعين أن نشير إلى أن القطن شغل 22.4 % من المساحة المنزرعة عام 1913، مقابل 11.5 % عام 1879، وزاد محصول القطن من مليون و818 ألف قنطار إلى 6 ملايين و250 ألف قنطار بين عامي 1884 و1908، كما ارتفعت قيمة الصادرات القطنية من 6 ملايين و424 ألف جنيه إلى 17 مليوناً و91 ألف جنيه أثناء الفترة نفسها، وهو ما يمثل 67 % من مجموع الصادرات عام 1884، و83 % عام 1906
والشاهد أن مصر بمدنها وريفها قد تأثرت بشدة بهذا الكساد العالمي، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، ومن ذلك أحوال المعيشة والزواج والطلاق والتعليم والصحة والتبشير والبطالة والإجرام والبغاء والمخدرات (علي شلبي، أزمة الكساد العالمي الكبير وانعكاسها على الريف المصري (1929-1934)، دار الشروق، القاهرة، 2007)
والأكيد أن الأزمة الاقتصادية خنقت الأسواق، وأدت إلى إفلاس كثيرين نتيجة استمرارها بضعة أعوام، الأمر الذي حال دون صعود وجوه جديدة من الأثرياء ورجال المال والأعمال
وبالرغم من مضي 15 عاماً على القائمة السابقة لأغنى أغنياء مصر، فإن القائمة الحديثة لهؤلاء الأغنياء لم تشهد تغيراً يذكر، وإن اختلف الترتيب، وأضيفت وجوهٌ قليلة إلى نادي كبار الأثرياء
وهكذا أظهرت قائمة منتصف الثلاثينيات الترتيب التالي لأغنى أغنياء مصر:
1- الأمير أحمد سيف الدين، ووصلت ثروته إلى ستة ملايين جنيه، وأقر مجلس البلاط الملكي منحه مرتباً شهرياً قدره ألف جنيه، في أعقاب هروبه من المصحة في إنجلترا في خريف 1925 وذهابه إلى الآستانة
2- محمد بك ابن محمود خليل باشا، وقدرت ثروته بنحو ثلاثة ملايين جنيه
3- الأمير عمر طوسون
4- آل البدراوي وعاشور
كان والد محمد محمود خليل (1877- 31 ديسمبر 1953) يشغل وظيفة مهمة في الديوان الخديوي، وكانت أمه يونانية. وجد نفسه يسعى بين القصور ويشاهد أعمال الفنانين، ويسمع الموسيقى بآلاتها الغربية مع الفرق التي كانت تزور قصر الخديو الجديد
التحق بمدرسة الليسيه فرنسيه بالقاهرة ثم سـافر إلى باريس عام 1897 ليـدرس القـانون بجـامعة السوربون. وبعد إتمام دراسته عاد ليعمل وكيلاً لمجلس الشيوخ المصري ثم أصبح رئيساً لهذا المجلس في الفترة من 8 مايو أيار 1938 إلى 9 سبتمبر أيلول 1942، كما تولى منصب وزير الزراعة عام 1937
ويعد متحف محمد محمود خليل وحرمه - الذي افتتح رسمياً في 23 يوليو تموز 1962 وأعيد افتتاحه بشكله الجديد في أكتوبر تشرين ثانٍ 1995- واحداً من أهم المتاحف في مصر. وهو في الأصل قصرٌ لصاحبه، جمع فيه مختارات من أعمال فنانين كبار قادوا الحركة الفنية في أوروبا خاصة في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبخاصة للمدرسة التأثيرية وإعلامها مثل ماتيه وغوغان، إضافة إلى مجموعة من التماثيل البرونزية والرخامية والجصية لكبار مثالي القرن التاسع عشر كأعمال رودان وكاريو وباري وهوردون
كان محمد محمود خليل باشا قد التقى في عام 1903 راقصة مغمورة تدرس الموسيقى بمعهد كونسرفتوار بارشرا اشتهرت باسم "زورو" واسمها الحقيقي إميلين لوك. أحبها، وكانت عاشقة للفنون والاقتناء، فاختلطت عنده العاطفة مع عشقه لاقتناء كنوز الفن. تزوجها في العام نفسه، وعادا إلى مصر حيث أقاما في قصره بالجيزة عام 1915
حدث أنه عندما كان في باريس عام 1903 أن دفعت إميلين 400 جنيه كاملة في لوحـة "الفتاة ذات رباط العنق الأبيض" The One With The White Tie للفنان بيير-أوغست رينوار، وعندما راجعها محمد محمود خليل في الأمر أجابته ضاحكة: سوف يقدر التاريخ قيمة هذه اللوحة. ويتجاوز سعر هذه اللوحة الآن 50 مليون دولار
شارك في تأسيس جـمعية محبي الفنون الجميلة مع الأمير يوسف كمال وأصبح رئيساً لها بين عامي 1924 و1925. أصبح رئيسـاً للجنة الاستشارية للفنون الجميلة بوزارة المعارف عام 1927. وفي عام 1928 استطاع محمد محمود خليل أن يقنع الملك فؤاد بضرورة إقامة متحف للفن الحديث فعهد إليه الملك بهذه المهمة، فكان يسافر إلى فرنسا لاقتناء اللوحات للمتحف بصحبة سفير مصر في باريس مع مدير الفنون الجميلة بوزارة المعارف
أقيم المتحف في البداية بقصر تيجراي بشارع إبراهيم باشا ثم انتقل إلى قصر موصيري بشارع فؤاد عام 1930 ثم إلى قصر البستان عام 1935، ثم إلى قصر الكونت زغيب بجوار قصر هدى شعراوي الإسلامي الطراز، حتى هدمت مباني القصرين في عهد الدكتور عبد القادر حاتم وزير الثقافة والإعلام في مطلع ستينيات القرن الماضي، وموقعها أصبح موقفاً للسيارات يطل على ميدان التحرير بعد فشل مشروع الفندق السياحي الذي كان من المقرر إقامته في هذا الموقع
في عـام 1937 أشـرف على الجناح المصري بمعرض باريس الدولي، وبه عرض الكثير من أعمال الفنانين المصريين في ذلك الوقت. وفي عام 1949 أقيم معرض بباريس عُرِضَت به مختاراتٌ فنية من المتاحف المصرية والفرنسية وبعض لوحاتٍ لفنانين مستشرقين من مجموعته. أشرف على هذا المعرض فنانون مصريون وفرنسيون، وكان محمد محمود خليل رئيساً للجانب المصري
وربما جاز القول إنه لولا أن محمد محمود خليل باشا قد خلّد نفسه بالمتحف الذي يحمل اسمه لما تذكره كثيرون في تاريخنا المعاصر
وشهدت القائمة عودة الوجوه الملكية من جديد، إذ احتل الملك فؤاد ملك مصر المركز الأول بشكلٍ غير رسمي، حيث نجح في في تنمية ثروته بحكم مركزه. كما انضم إلى القائمة حاكم مصر السابق الخديو عباس حلمي الثاني الذي عزله الإنجليز عن العرش عام 1914، وإن لوحظ أن ثروته تركزت خارج مصر
وأدى اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلى ظهور طبقة جديدة من الأثرياء أطلق عليهم أثرياء الحرب، حيث كان معظمهم من التجار الذين يمتلكون مخازن كبرى بها بضائع توقف استيرادها فقفزت أسعارها، ولم يكونوا مؤهلين للمال الذي حصلوا عليه، فاندفعوا في أعمال ومشروعات دفعت رسامي الكاريكاتير في معظم المجلات إلى تناولهم بالسخرية. في الوقت نفسه، شهدت مصر هروب عدد من الأغنياء وخاصة من اليهود وتصفيتهم أعمالهم، في أعقاب وصول القوات الألمانية إلى حدود مصر الغربية واقترابها من العلمين
في كتابه "تطور الحركة الوطنية المصرية 1882-1956" (دار شهدي للطبع والنشر والتوزيع، 1957)، يقدم شهدي عطية الشافعي أحد أبرز قادة الحركة الشيوعية المصرية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين رؤيةً مهمة. يقول الكاتب تحت عنوان "سيطرة كبار رجال المال": "وفي ظل الاستقلال الاسمي الذي فازت به مصر، ظهرت نواةٌ بارزة من كبار الماليين المصريين، المتصلين أوثق اتصال بالشركات الأجنبية، برؤوس الأموال الاستعمارية. إذ رأت هذه الشركات أنه من الخير لها أن تعين من بين أعضاء مجالس إدارتها بعض مستوزرين سابقين، وبعض كبار الموظفين ليستخدموا جهاز الدولة في خدمة هذه الشركات. كما أن بعض أثرياء التجار المصريين أمثال فرغلي، وعلي أمين يحيى، رأوا من صالحهم التعاون مع رؤوس الأموال الأجنبية لتحقيق مزيدٍ من الأرباح. ومن ثم برزت فئةٌ جديدة شاركت كبار الملاك الحكم تحت سيطرة السراي والاستعمار"
ويضيف شهدي عطية قائلاً: "هذه الفئة وأمثالها من كبار الماليين المتصلين أوثق اتصال بالاحتكارات الأجنبية اجتهدت أول الأمر أن تنشيء لها أحزاباً مستقلة، كحزب الاتحاد عام 1925 الذي كان يرأسه يحيى إبراهيم باشا (من كبار الماليين) ونشأت باشا، ثم حزب الشعب الذي كوّنه صدقي باشا 1931، ولكن هذه الأحزاب فشلت فشلاً ذريعاً. لقد نشأت في أحضان السراي وبقوة البوليس ورجال الإدارة، فلم تنجح في تضليل أحد، وسرعان ما كانت تذبل وتموت بمجرد خروجها من الحكم. ومن ثم اتبع كثيرٌ من كبار الماليين سياسة جديدة، هي البقاء خارج الأحزاب تحت يافطة المستقلين وتحت طلب السراي والاستعمار، كلما أراد انقلاباً جديداً"
غير أن نجمي المجتمع في تلك الفترة كانا رجلي مال وأعمال اتسم نشاطهما بالعمل المؤسسي: المهندس العصامي أحمد عبود باشا، وسليل عائلة التجار محمد أحمد فرغلي باشا