من يفوز بليلة القدر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
قد آن أوان الجد والاجتهاد ، ومضى زمان العجز والكسل والرقاد ، جاء العشر فأكرم بها من أيام وليالٍ للعباد ، تكاثرت فيها الغنائم فمنْ للحصاد ؟ ومن سيوفق لنيل خير زاد للمعاد ؟ ومن سيؤذن له بالقرب بعد البعاد ؟ ها قد عُقد المزاد ، فمن يا ترى يفوز بالمراد ؟ فحذار أن تكون بضاعتك في كساد .
اجتهد أبو موسى الأشعري قبل موته اجتهادًا شديدًا ، فقيل له : لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق ؟ فقال إنَّ الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها
حبيبتي في الله .. جدَّي واجتهد
عن عائشة - رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله إذا دخل العشر شد مئزره ، و أحيا ليله ، و أيقظ أهله متفق عليه
وفي رواية لمسلم عنها قالت كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره فيا من ضاع عمره بلا شيء ، استدرك ما فاتك في ليلة القدر ، فإنها تحسب بالعمر ، فبادر إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر فعسى أن تستدرك ما فاتك من ضياع العمر
وهذا لتحري ليلة القدر ، قال تعالى : وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
القدر :2-5
حبيبتي في الله ... لا تكوني مع المحرومين
قال النبي : إن هذا الشهر قد حضركم ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرمها فقد حرم الخير كله ، و لا يحرم خيرها إلا محروم رواه ابن ماجه وحسنه الألباني (2247) في صحيح الجامع
فما الذي فاتك يا محروم من نيل مناك ، أمتَّ قلبا كان حيا أحسن الله عزاك ، فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشئوم ، ومن فاته القرب من مولاه فهو المحروم ، اللهم إنا نعوذ بك من الحرمان .
هذه ليلة القدر
ليلة عظيمة فعظِّموا فيها ربكم.
فقد قال الزهري أنَّ القدر هو العظمة ، كما تقول : لهذا الشخص قدر: أي مكانة ومنزلة عظيمة . : وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الأنعام : 91.
فهي ليلة ذات قدر ، نزل فيها كتاب ذو قدر ، وتنزل فيها رحمة ذات قدر ، وملائكة ذوو قدر .
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا القدر: 4
فينبغي لمن أراد أن يفوز بليلة القدر ، أنْ يُعظِّم فيها ربَّه ، فلا ينشغل عنه فيها بأي شيء من حطام الدنيا الفاني ، ويكثر من التكبير والتهليل ، فإنَّه من استقامة اللسان ، وهو سبب استقامة القلب.
قال : لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه
رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني (2841) في الصحيحة ليلة تضيق فيها الأرض من كثرة الملائكة
فقد فسَّر الخليل بن أحمد معنى القدر بأنه من الضيق ، كما قال تعالى : وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ الطلاق: 7
والمعنى أنَّها ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون .
قال أبو هريرة :الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى . زاد المسير (9/192)
فيا لرحمة الله ، ويا سعادة من بلغها ، يقف في الصلاة ولربما التصق به الملك ، يقرأ القرآن فيضع الملك فمه في فمه .
قال رسول الله : إن العبد إذا تسوك ، ثم قام يصلي ، قام الملك خلفه ، فيستمع لقراءته، فيدنو منه ، حتى يضع فاه على فيه ، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك ، فطهِّروا أفواهكم للقرآن رواه البزار وصححه الألباني (1213) في الصحيحة
فهل تحبُّ أنْ تسلِّم عليك الملائكة وتصافحك كما حدث مع بعض الصحابة
ذكر قتادة أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين حتى اكتوى . الطبقات الكبرى (4/288)
ولما حضرت معاذ الوفاة ، قيل له : هل ترى شيئا ؟ قال : نعم شكر لي ربي حسن عزائي ، أتاني روح ابني يبشرني أن محمدا في مائة صف من الملائكة والشهداء الصالحين يصلون على روحي ويسوقوني إلى الجنة ؛ ثم أغمي عليه . فرأوه كأنه يصافح قوما ويقول : مرحبًا مرحبًا أتيتكم ثمَ مات – رحمه الله – تاريخ دمشق : (58/448)
فعليك –عبد الله - بكثرة ذكر الله تعالى في هذه الليلة .
جاء في بعض الإسرائيليات :يا موسى إن أردت أن لا يبقى ملك في السموات السبع والأرض إلا سلموا عليك وصافحوك يوم القيامة فأكثر التسبيح والتهليل حلية الأولياء (6/37)
إنها ليلة الشرف
قال أبو بكر الوراق : من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر .
فيا من ليس لك عند الله حظ ولا نصيب ، يا من تشتكي من انغلاق الأبواب ، يا من كبلته الخطايا والذنوب فقنط ويئس ، أبشر فقد يصلحك الله في هذه الليلة ، قد يحبك ، قد يفيض عليك من جوده ورحمته ، فتصير بعدها عند الله وجيهًا .اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
ليلة يباهي الله فيها الملائكة بعباده الصالحين.
قال ابن رجب : فإنَّ الملوك و السادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينوا دارهم بالفرش والبسط ، و يزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة ، فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك و تعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض ؛ لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم والصلاة في ليالي رمضان ، و مساجدهم بالقناديل و المصابيح فيقول الرب تعالى : أنتم طعنتم في بني آدم و قلتم : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء فقلت لكم : إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين .
لطائف المعارف ص 350 ليلة مباركة هي خير من ألف شهر
فلما كانت أعمار الأمم السابقة أطول خشي النبي أن تتقاصر أعمار أمته فلا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر
قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر.
قال جويبر : قلت للضحاك : أرأيت النفساء و الحائض و المسافر و النائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال : نعم كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر .
فيها يفرق كل أمر حكيم
قال ابن عباس : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ الدخان : 3-4 - يعني ليلة القدر - ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل.
قال البيهقي – رحمه الله - : ومعنى ليلة القدر الليلة التي يقدر الله تعالى لملائكته جميع ما ينبغي أن يجري على أيديهم من تدبير بني آدم ومحياهم ومماتهم إلى ليلة القدر من السنة القابلة ، وكان يدخل في هذه الجملة أيام حياة النبي أي يقدر فيها ما هو منزله من القرآن إلى مثلها من العام القابل .
. فضائل الأوقات ص 213سلام هي :
عن مجاهد في قوله تعالى : سلام هي قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا يحدث فيها أذى .
قال قتادة : السلام : الخير والبركة.
فليلة القدر سبب للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة ، حيث أنَّ من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه .
حبيبي في الله ...
التمسها في ليال العشر الأواخر
وقد أمرنا رسول الله بتحريها . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي قال : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان متفق عليه
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجالاً من أصحاب النبي أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " متفق عليه
وأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر .
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى " رواه البخاري
فانتهى بيان النبي لليلة القدر إلى أنها في الوتر من السبع الأواخر ولم يزد على ذلك شيئاً .
وكان سلفنا يحتاطون فيتلمسون ليلة القدر في جميع ليال العشر ، أشفاعه وأوتاره ، كما حُكي ذلك عن الحسن البصري و مالك ـ رحمهما الله ـ ، وإن ذهب الأكثرون على تحريها في الليالي الوترية .
والصحيح في علامتها :
أنْ تشرق الشمس يومها لا شعاع لها .
عن ابن عباس أنَّ النبي قال : ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة و لا باردة ، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء رواه أبو داود الطيالسي والبيهقي في سننه وصححه الألباني (5475) في صحيح الجامع
وقد كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان طلبًا لهذه المنحة الربانية العظيمة .
حبيبتي في الله..
إننا مأمورون بالسعي في اكتساب الخيرات و الاجتهاد في الأعمال الصالحات ، و كلٌ ميسر لما خلق له ، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في هذه الليالي ما لا يجتهده في سائر العام لما فيه من المثوبة العظيمة.