قال الأحنف بن قيس : تعلموا العلم و الحلم و الصبر فإني تعلمته .
فقيل له : ممَّن ؟
قال : من قيس بن عاصم .
قيل : و ما بلغ من حلمه ؟
قال : كُنَّا قعوداً عنده إذ أُتي بابنه مقتولاً و بقاتله مكبولاً ، فما حل حبوته و لا قطع حديثه حتى فرغ .
ثم التفت إلى قاتل ابنه فقال : يا ابن أخي ما حملك على ما فعلت .
قال : غضبت .
قال : أ وَ كلما غضبت أهنت نفسك و عصيت ربك و أقللت عددك ، اذهب فقد أعتقتك .
ثم التفت إلى بَنيه فقال : يا بني اعمدوا إلى أخيكم فغسلوه و كفنوه فإذا فرغتم منه فأتوني به لأصلي عليه .
فلما دفنوه قال لهم : إن أمه ليست منكم و هو من قوم آخرين فلا أراها ترضى بما صنعتم فاعطوها ديته من مالي .
كلام أبي ذر عند موت ابنه ذر
روى الصدوق في الفقيه أنه لما مات ذر بن أبي ذر رحمه الله وقف على قبره أبوه و مسح القبر بيده ثم قال :
رحمك الله يا ذر ، و الله إنك كنت لي لبراً ، و لقد قُبضت و إني عنك لراض ، و الله ما بي فقدك ، و ما بي من غضاضة ، و ما لي إلى أحد سوى الله من حاجة ، و لو لا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، و لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، و الله ما بكيت عليك بل بكيت لك ، فليت شعري ما قلت و ما قيل لك ، اللهم فقد وهبتُه ما افترضتَ عليه من حقي ، فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود و الكرم مني .
عندما يسترجعُ الله النعم
قَدُمَ على بعض الخلفاء قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير أعمى فسأله الخليفة عن عينيه كيف أصيبت ؟
فقال : بِتُّ ليلة في بطن وادٍ و لم يكن في بني عبس من يزيد ماله على مالي ، فطرفنا سيل فذهب بما كان لي من أهل و مال و ولد غير بعير و صبي مولود ، فنفر البعير ، فوضعت الصبي و اتَّبعت البعير ، فلم أجاوز قليلا حتى سمعت صيحة ابني ، فرجعت إليه و رأس الذئب في بطنه و هو يأكله ، و لحقت البعير لأحبسه فبعجني برجله على وجهي فحطمني و ذهب بعيني ، فأصبحت لا مال بي و لا أهل و لا ولد و لا بصر !
الأم الصابرة
قال رجلٌ خرجت أنا و صديق لي إلى البادية فضللنا عن الطريق فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها ، فسلمنا فإذا بامرأة ترد علينا السلام .
قالت : من أنتم ؟
قلنا : ضالون فآتيناكم فاستأنسنا بكم .
فقالت يا هؤلاء انتظروا حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل .
يقول الرجل : فانتظرنا ، فألقت لنا مسحا و قالت اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني ، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة و تردها إلى أن رفعته مرة فقالت : أسأل الله بركة المُقبل ، أما البعير بعير ابني ، و أما الراكب فليس هو .
قال الرجل : فوقف الراكب عليها و قال :
يا أم عقيل عظم الله أجرك في عقيل ولدك .
فقالت : ويحك ، مات ؟
قال : نعم .
قالت : و ما سبب موته ؟
قال : ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر .
فقالت : إنزل و اقض زمام القوم .
فنزل الرجل فدفعت المرأة إليه كبشا فذبحه و أصلحه و قرَّب إلينا الطعام ، فجعلنا نأكل و نتعجب من صبرها ، فلما فرغنا خرجت إلينا و قالت :
يا قوم هل فيكم من يحسن كلام الله شيئا ؟
قلت : نعم .
قالت : فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي .
فقلت : يقول الله عزَّ و جَلَّ : { وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } .
قالت : بالله ، إنها لفي كتاب الله هكذا ؟
قلت : و الله إنها لفي كتاب الله هكذا .
فقالت : السلام عليكم ، ثم صفَّت قدميها و صلَّت ركعات ثم قالت :
اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به فانجز لي ما وعدتني به و لو بقي أحد لأحد ـ قال فقلت لنفسي لبقي ابني لحاجتي إليه ـ فقالت : لبقي محمد ( صلى الله عليه وآله ) لأمته .
فخرجت و أنا أقول ما رأيت أكمل منها و لا أجزل ، ذكرت ربها بأكمل خصاله و أجمل جلاله .
ثم إنها لما علمت أن الموت لا مدفع له و لا محيص عنه و أن الجزع لا يجدي نفعا و البكاء لا يرد هالكا رجعت إلى الصبر الجميل ، و احتسبت ابنها عند الله ذخيرة نافعة ليوم الفقر و الفاقة .
الصبر خير مطيَّة
روى البيهقي عن ذي النون المصري قال كنت في الطواف و إذا أنا بجاريتين قد أقبلتا و أنشأت إحداهما تقول :
صبرت و كان الصبر خير مطية * و هل جزع مني يجدي فأجزع
صبرت على ما لو تحمل بعضه * جبال برضوى أصبحت تتصدع
ملكتُ دموع العين ثم رددتُها * إلى ناظري فالعين في القلب تدمع
فقلت : مما ذا يا جارية ؟
فقالت : من مصيبة نالتني لم تصب أحدا قط .
قلت : و ما هي ؟
قالت : كان لي شبلان يلعبان أمامي ، و كان أبوهما ضحَّى بكبشين ، فقال أحدهما لأخيه يا أخي أراك كيف ضحى أبونا بكبشه ؟ فقام و أخذ شعره فنحره و هرب القاتل .
فدخل أبوهما فقلت إن ابنك قتل أخاه و هرب ، فخرج في طلبه فوجده قد افترسه السبع ، فرجع الأب فمات في الطريق ظمأ و جوعا .