Al-Ahly Fans Official Site
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Al-Ahly Fans Official Site

الأهلي فانز دوت كوم
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الخلاصة في حياة الأنبياء

اذهب الى الأسفل 
5 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالجمعة أغسطس 05, 2011 1:47 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

الخلاصة في حياة الأنبياء

جمع وإعداد

الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ـ وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد :
فهذا كتاب لطيف حول قصص الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم ، بشكل مختصر ، مع التركيز على موطن العظة والعبرة ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) [الأنعام/83-90] }

أولئك الأنبياء المذكورون هم الذين وفقهم الله تعالى لدينه الحق، فاتبع هداهم -أيها الرسول- واسلك سبيلهم.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :
« إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ » أخرجه البخارى.

والحكمة من إرسالهم للبشر تظهر جلية في قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء.

إن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم بالسعادة الدنيوية والأخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا : { مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (19) سورة المائدة.

فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر، فأزال هذا الاضطرار فله الحمد وله الشكر ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم إنه جواد كريم.

جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود

حمص
في 4 ذو القعدة لعام 1428 هـ
الموافق ل 13/11/2007 م


آدم (عليه السلام)

أخبر الله -عز وجل- ملائكته بخلق آدم -عليه السلام- فقال تعالى:
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] فسألت الملائكة الله -عز وجل- واستفسرت عن حكمة خلق بني الإنسان، وقد علمت الملائكة أن مِنَ الخلقِ من يفسدُ في الأرض، ويسفك الدماء، فإنْ كانت الحكمةُ من خلقهم هي عبادة الله، فهم يعبدونه، فقالوا لله: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30] فأجابهم الله -عز وجل- عن استفسارهم بأنه -سبحانه- يعلم الحكمة التي تخفى عليهم، فإنه -سبحانه- سيخلق بني البشر ،ويجعل فيهم الرسل والأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء، والعلماء والعاملين لدين الله، والمحبين له، المتبعين رسله، قال تعالى: { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30]. وخلق الله -سبحانه- آدم من تراب الأرض ومائها، ثم صوَّره في أحسن صورة ،ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو إنسان حي من لحم ودم وعظم، وكان ذلك يوم الجمعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ ». _[أخرجه مسلم].

وقال صلى الله عليه وسلم:
« إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ». [أخرجه أبو داود] .

ولما صار آدم حيًّا، ودبَّت فيه الحركة علمه الله -سبحانه- أسماء كل شيء ومسمياته وطرائق استعماله والتعامل معه من الملائكة والطيور والحيوانات وغير ذلك، قال تعالى:
{ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [البقرة:31] وأراد الله -عز وجل- أن يبين للملائكة الكرام فضل آدم ومكانته عنده، فعرض جميع الأشياء التي علمها لآدم على الملائكة، وقال لهم:
{ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة:31] فقالوا: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة:32].

فأمر الله آدم أن يخبرهم بأسماء هذه الأشياء التي عجزوا عن إدراكها، فأخذ آدم يذكر اسم كل شيء يعرض عليه، وعند ذلك قال الله -تعالى- للملائكة:{ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 33].

ودار حوار بين آدم -عليه السلام- والملائكة حكاه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:

« خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ . فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ . فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ » . [متفق عليه] .

و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَىْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ أَىْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَىْ رَبِّ مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَىْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِى أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِى أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنَسِىَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ ».

وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ ، قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ : إنَّ الأَرْضَ لاَ تَسَعُهُمْ ، فَقَالَ : إنِّي جَاعِلٌ مَوْتًا ، قَالَوا : إذًا لاَ يُهَنِّئُهُمْ الْعَيْشُ ، قَالَ : إنِّي جَاعِلٌ أَمَلاً .

وأمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم تشريفاً وتعظيماً له فسجدوا جميعًا، ولكن إبليس رفض أن يسجد، وتكبر على أمر ربه، فسأله الله -عز وجل- وهو أعلم: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ } ص:75] فَرَدَّ إبليس في غرور: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ص: 76] فطرده الله -عز وجل- من رحمته وجعله طريدًا ملعونًا، قال تعالى: { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) } [ص: 77-78].

فازداد إبليس كراهية لآدم وذريته، وحلف بالله أن يزين لهم الشر، فقال إبليس: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) } [ص: 82-83] فقال الله -تعالى- له: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص:85] ،وذات يوم نام آدم -عليه السلام-، فلما استيقظ وجد امرأة تجلس إلى جانبه فسألها: من أنتِ؟ قالت: امرأة، قال: ولِمَ خُلِقْتِ؟ قالت: لتسكن إليَّ، ففرح بها آدم وأطلق عليها اسم حواء؛ لأنها خلقت من شيء حي، وهو ضلع آدم الأيسر .

وأمر الله -سبحانه- آدم وزوجته حواء أن يسكنا الجنة، ويأكلا من ثمارها ويبتعدا عن شجرة معينة، فلا يأكلان منها؛ امتحانًا واختبارًا لهما، فقال تعالى: { يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة:35] وحذَّر الله -سبحانه- آدم وزوجه تحذيرًا شديدًا من إبليس وعداوته لهما، فقال تعالى: { يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } طه: [117-119].

وأخذ إبليس يفكر في إغواء آدم وحواء، فوضع خطته الشيطانية؛ ليخدعهما فذهب إليهما، وقال: { يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)}[طه:120]

فَصَدَّق آدم وحواء كلام إبليس بعد أن أقسم لهما، ظنًّا منهما أنه لا يمكن لأحد أن يحلف بالله كذبًا، وذهب آدم وحواء إلى الشجرة وأكلا منها.. وعندئذ حدثت المفاجأة؟‍‍!!

لقد فوجئ آدم وحواء بشيء عجيب وغريب، لقد أصبحا عريانين؛ بسبب عصيانهما، وأصابهما الخجل والحزن الشديد من حالهما، فأخذا يجريان نحو الأشجار، وأخذا يقطعان من أوراقها ويستران بها جسديهما، فخاطب الله -عز وجل- آدم وحواء معاتبًا: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) } [الأعراف: 22] فَقَالَ آدَمُ وَزَوْجُهُ نَادِمَيْنِ مُتَضَرِّعَيْنِ : رَبَّنَا إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ ، وَمَعْصِيَتِنا لأَمْرِكَ ، وَقَدْ أَنْذَرْتَنَا ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا ظَلَمْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا ، وَتَرْحَمْنَا بِالرِّضا عَنَّا ، وَتُوَفِقْنَا لِلهِدَايَةِ ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ لأَنْفُسِنَا .

فقالا: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } [الأعراف: 23] ( وَهَذِهِ هِيَ الكَلِمَاتُ التِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ مُعْتَذِراً لِيَغْفِرَ لَهُ ). وبعد الندم والاستغفار، قبل الله توبتهما ودعاءهما، وأمرهما بالهبوط إلى الأرض والعيش عليها.

وعاش آدم وحواء على الأرض، وبدءا مسيرة الحياة عليها.. ووُلد لآدم وهو على الأرض أولاد كثيرون، فكان يؤدبهم ويربيهم، ويرشدهم إلى أن الحياة على الأرض امتحان للإنسان وابتلاء له، وأن عليهم أن يتمسكوا بهدى الله، وأن يحذروا من الشيطان ومن وساوسه الضَّارة.

وظل آدم يعيش وسط أبنائه يدعوهم إلى الله، ويعرِّفهم طريق الحق والإيمان، ويحذِّرهم من الشرك والطغيان وطاعة الشيطان، إلى أن لقى ربه وتوفي بعد أن أتم رسالته، وترك ذريته يعمرون الأرض ويخلفونه فيها.

وعندما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء في رحلة المعراج مَرَّ بآدم -عليه السلام- في السماء الأولى، وقيل له: هذا أبوك آدم فسلِّمْ عليه، فسلم عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وردَّ آدم -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام، وقال: (مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ)_[البخاري] .

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى دَعْوَةٍ ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً وَقَالَ :« أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، هَلْ تَدْرُونَ بِمَنْ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِى ، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ ، إِلَى مَا بَلَغَكُمْ ، أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ ، أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ رَبِّى غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَنَهَانِى عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِى نَفْسِى ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى ، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ . فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا ، أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ رَبِّى غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، نَفْسِى نَفْسِى ، ائْتُوا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَأْتُونِى ، فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهُ ». [البخاري] .

و عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِى أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ .

فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ ، ثُمَّ تَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى » مَرَّتَيْنِ .

وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ فَقَالَ لِلَّذِى فِى يَمِينِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَلاَ أُبَالِى وَقَالَ لِلَّذِى فِى كَفِّهِ الْيُسْرَى إِلَى النَّارِ وَلاَ أُبَالِى ».

و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي ، وَهَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَلا أُبَالِي ، قَالَ : فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ ، قَالَ : عَلَى مُوَافَقَةِ الْقَدَرِ.

وعَنْ سَلْمَانَ ، قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ، قَالَ : وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك , وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك , فَأَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا , وَأَمَّا الَّتِي لَك فَمَا عَمِلْت مِنْ شَيْءٍ جَزَيْتُك بِهِ , وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الْمَسْأَلَةُ وَعَلَيَّ الإِجَابَةُ .

العبرة من قصة آدم عليه السلام:

الأمر الأول –

أن هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانت دعوتهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى وكان توحيده سبحانه أول ما دعوا إليه أممهم: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [النمل:36]. التوحيد هو أول ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام.

الأمر الثاني-

أن دينهم جميعا هو الإسلام: إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران:19]. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:130-132].
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليه وما أنزلنا به إبراهيم وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [الشورى:13].

الأمر الثالث-

أن هؤلاء الأنبياء والمرسلين يؤمن بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضا ويبشر أولهم بأخرهم: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران:81].

الأمر الرابع-

أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة النبوات ورسالته خاتمة الرسالات وناسخة لها وهي رسالة الله للعالمين: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40]. وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ:28]. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جمعيا [الأعراف:158].

الأمر الخامس-

أن قصص الأنبياء والمرسلين جاءت في هذا القرآن الكريم عبرة وذكرى ومنهجا وتسلية وتصبيرا للدعاة في دعوتهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وكبير الدعاة إلى رب العالمين الذي قال له ربه تبارك وتعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90].

وهناك اعتبارات عديدة في قصة آدم عليه السلام:

*أول اعتبار –

من هذه الاعتبارات - هو أن الإنسان سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق الله كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصاً - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي.. لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو تكثير أي عنصر مادي . .

فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق إنسانيته.
من أجل تقرير وجوده الإنساني .
فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كرامته.

*والاعتبار الثاني –

هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول .
فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها .

وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلاً سلبياً كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر!

إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض، عاملاً مهما في نظام الكون، ملحوظا في هذا النظام.

فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار ، ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . .

فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا تسمح له أن يتعداه؟! وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان؛ وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها؛ وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . .

وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره ، إلا أثراً من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض! كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته.

فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه :
{ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . . }

وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته .

بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ، وإهدار لكل القيم الأدبية ، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان!

* إن الله تعالى لم يخلق عباده عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم لحكمة سامية وغاية عظيمة وهي عبادته سبحانه وإقامة دينه في الأرض وقد بين لهم الطريق إلى ذلك فأرسل الرسل وأنزل الكتب ليبينوا للناس صراط الله المستقيم ويدعوهم إليه ويبشرونهم وينذرونهم ويلفتوا أنظارهم إلى آياته ودلائل وحدانيته سبحانه. وبينوا ذلك أتم بيان ودعوا إليه أصدق دعوة وبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده ولقوا في سبيل الله ذلك أصناف الأذى وألوان الابتلاء وأنواع الشدائد قابلوها بثبات منقطع النظير وصبر فاق كل تصور فعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين وقد حكى القرآن لنا قصص هؤلاء الرسل وجهادهم في سبيل هذه الدعوة والمنهج الذي سلكوه وما دار بينهم وبين أممهم وأقوامهم من صراع في سبيل هذه الدعوة حتى أظهر الله دينه وأعز جنده ونصر رسله وكانت كلمته هي العليا, وإنك لتقرأ القرآن الكريم وتقرأ قصة رسول منهم في أكثر من سورة فتجد أن لها في كل سورة مقصد ومغزى وحكمة وعبرة وعظة تختلف عن السورة الأخرى وهذا من أعجاز هذا الكتاب الكريم كيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ومن تتبع آيات القرآن والسنة الصحيحة عن الرسول عليه الصلاة والسلام في قصص هؤلاء الأنبياء رأى العجب العجاب من هذا المنهج القوى وهذه السيرة الطيبة وهذه الدعوى الصادقة إلى دين الله ورأى الحكم والمواعظ ورأى المنهج المستقيم الذي يجب على كل من دعا الله أن يسلكه وأن يتخذه منهجا كيف لا وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر له الأنبياء والرسل قال تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" [الأنعام:90].

*وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته ، وعدم الخضوع لشهواته ، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه .

بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه ، بتغليب الشهوة على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه . وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه ، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى . كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ، والرفعة والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق!

*وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة .
إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر . بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال . . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة؛ وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان؛ وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان!

وأخيراً تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية .
في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض .

* ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي ، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - ( ابن الله بزعمهم ) قام به بصلبه ، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم! . . كلا! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره ، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط . . { إن الله تواب رحيم }

*وقال بعض العلماء :

وقد يتبادر إلى الذهن أن آدم قد ارتكب ما نهى عنه، ارتكاب من يتعمد المخالفة ، فيكون أكله من الشجرة معصية ، مع أنه من الأنبياء المرسلين ، والرسل معصومون من مخالفة أوامر الله .

والجواب عن ذلك:

أن آدم تعمد الأكل من الشجرة، ناسياً النهي عن الأكل منها، وفعل المنهي عنه على وجه النسيان لا يعد من قبيل المعاصي التي يرتكبها الشخص وهو متذكر أنه يرتكب محرماً، إذ أن ارتكاب المحرم عن علم وتذكر هو الذي يجعل مرتكبه مستحقاً للعقاب، والأنبياء معصومون من ذلك.

وإذا عاتب الله بعض الأخيار من عباده على ما مصدر منهم على وجه النسيان، فلأن علمهم بالنهي يدعوهم إلى أن يقع النهي من نفوسهم موقع الاهتمام ، بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعاً يملأ نفوسهم بالنفور منها ، ويجعلهم على حذر من الوقوع في بلائها .

فالذي وقع من آدم - عليه السلام - هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم في استحضار النهي وجعله نصب عينيه حتى أدركه النسيان ، ففعل ما نهى عنه غير متعمد للمخالفة ، قال - تعالى -: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (115) سورة طـه

* أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم ، وأن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة ، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت على نفس من النفوس ، جعلتها لا ترى البراهين الساطعة ، ولا يوجهها إلى الخير وعد ، ولا يردعها عن الشر وعيد .

*كما يستفاد منها كيف أن الرئيس يفسح المجال لمرؤوسيه المخلصين ، يجادلونه في أمر يريد قضاءه ، ولا يزيد عن أن يبين لهم وجهة نظره في رفق ، وإذا تجاوزوا حدود الأدب اللائق به راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب ، وتلقي أوامره بحسن الطاعة .

*كما يؤخذ منها أن المتقلب في نعمة يجب أن يحافظ عليها بشكر الله ، ولا يعمل عملا فيه مخالفة لأوامر الله؛ لأن مخالفة أوامر الله ، كثيراً ما تؤدى إلى زوال النعمة ، ومن أراد أن تزداد النعم بين يديه ، فعليه أن يلتزم طاعة الله وشكره .

*وتكرار القصة الواحدة في مواضع متعددة من هذا القبيل فأما من ناحية البلاغة فإبراز المعنى الواحد في صور متعددة وأساليب متنوعة وتفنن شيق وألفاظ مختلفة رفيعة غاية في البلاغة.

وأما من ناحية الإعجاز فإيراد المضمون الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة واحدة منها أبلغ في التحدي. علماً بأن العرب في ذلك الوقت وصلوا إلى قمة التفنن في البلاغة وحازوا قصب السبق في الفصاحة وملأوا الدنيا نثراً ونظماً.

وأما من ناحية البيان فتكرار القصة الواحدة يلفت الانتباه إليها ويشعر بالاهتمام بها. ويُمكَّن الاعتبار بها في النفس ويرسخها فيها على أساس أن ما تكرر تقرر.

ومن الحكم أيضا لتكرار القصة الواحدة في سور متعددة تناسب كل سياق مع السورة التي ورد فيها من حيث الطول والقصر والإطناب والإيجاز إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة الجليلة.
والله تعالى أعلى وأعلم.

يتبع إن شاء الله...

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 6:46 pm

قصة قارون مع موسى

قال تعالى :{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) }[القصص/77-84]

يَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ كُبَراءِ قُريشٍ ، الذِين اغتَرُّوا بأَمَوالِهِم ، واسْتَطَالُوا بِهَا عَلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، وَعَلَى المُؤمنينَ ، إِلى أنَّ المَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ ، وَأَنَّ المَالَ لاَ قِيمَةَ لهُ في مِيزَانِ اللهِ تَعَالى ، يَوْمَ الحِسَابِ في الآخِرَةِ ، وأَنَّ أمْوالَ هؤلاءِ الكُفَّارِ مِنْ قُريشٍ ، لا تُعَدُّ شيئاً مذكُوراً بالنِّسبةِ لِلمَالِ الذي آتاهُ اللهُ قَارُونَ ، ثُمَّ خَسَفَ اللهُ بهِ وبدَارِهِ الأَرْضَ لأَنَّهُ بَطِرَ وَأَشِرَ، واسْتَكْبَرَ ولم يَبْتَعِ بهذا المَالِ ثَوابَ اللهِ ، وجَزَاءَهُ في الدَّارِ الآخِرَةِ.

وَيَقُولُ تَعَالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ بَني إِسرائيلَ ( وَقَالَ بعضُ المُفَسِّرينَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ أقرِباءِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ) ، وَقَدْ آتاهُ اللهُ كثيراً منَ المَالِ ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الجَمَاعَةِ حَمْلُها لِكَثْرَتِهَا ، وَثِقلِ وَزْنِها ، فَطَغَى وَبَغَى ، وَبَطِرَ ، وَتَكَّبرَ ، فَقَالَ لبهُ قَومُهُ ناصِحِينَ: لا تَبْطَرْ ، ولا تَفْرَحْ بمَا أَنتَ فيهِ من النَّعمَةِ والمَالِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى لاَ يُحب البَطرِينَ الأَشِرِين، الذين لا يَشكُرونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وآلائِهِ ، وَتَنْسِيهمُ الدُّنيا والآخِرَةَ.

واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ ، والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ ، في طَاعَةِ رَبِّكَ ، والتَّقَرُّبِ إليهِ ، ولا تَنْسَ حَظَّكَ ( نَصِيبَكَ ) مِنَ الدُّنيا ، ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ ، مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها . . فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً ، وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً ، . . فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ .

وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ ، والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ ، إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ .

فَأَجَابَ قَارُونَ نَاصِحِيهِ مِنْ قَومِهِ : إِنَّهُ لا يَفْتَقِرُ إلى مَا يَقُولُونَ ، فإِنَّ الله إِنَّما أعطَاهُ هذا المَالَ لِعلمِهِ بأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ ، وَلأَنَّهُ يُحِبّهُ . ويَرُدّ اللهُ تَعَالى عَليهِ قائِلاً : إِنَّهُ كَانَ قَبلَ قَارُونَ أُناسٌ كثيرونَ أكثرُ منهُ مالاً ، إِلاَّ أَنهُ سُبحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هذا المَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ منهُ لهُمْ ، وَقَدْ
أَهلكهم بِكُفْرِهِمْ ، وَعَدمِ شُكرِهِمْ ، وفي الآخِرَةِ لا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُجرِمينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ ، ومِقْدَارِهَا وَكُنْهِها . . وَلاَ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيها ، وإِنِّما يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَم دُونَ سُؤَالٍ .

وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا ، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا .

فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ ، قَالُوا لَهُمْ : الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ .

وَبينمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِراً مُتَفَاخِراً عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في حِلْيَتِهِ وزِينَتهِ ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ ، فَأَصبَحَ هُوَ ودارُهُ وأموَالُهُ وخَزَائِنُهُ لا أثرَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعَذَابِهِ ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ ولا جَمْعُهُ وَلا خَدَمُهُ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَقْمَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ .

وَلَمَّا رَأَى الذينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ ، مَا حَلَّ بهِ وبِمَالِهِ ، قالُوا : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ وَلولا لُطْفُ اللهِ بِنا لأَعْطَانَا مَا سَأَلنا ، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بقَارُونَ ، فَخَسَفَ بِنَا الأَرضَ ، لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِراً برَبِّهِ ، وَلاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ في النَّجَاةِ مِنْ عَذابِ اللهِ تَعَالى .

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ - الجَنَّةُ التي عَلِمْتَ مِمَّا تَقدَّمَ وَصْفَهَا - قَدْ جَعَلَها الله خَالِصَةً لِعِبَادِهِ المُؤمِنينَ المُتَواضِعِينَ ، الذينَ لاَ يُريدُونَ اسْتِكْبَاراً على خَلْقِ اللهِ ، وَلاَ تَعَاظُماً عَلَيهِمْ ، وَلاَ جبراً، وَلاَ فَسَاداً في الأَرضِ . وَالعَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ ، وهيَ الجَنَّةُ ، جَعَلَها اللهُ لِمَنْ مَلأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبْهُ ، واتَّقى عَذَابَه بِفعلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ .

مَنْ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ حَسَناتٌ اكْتَسَبَها في الدُّنيا ، ضَاعَفَ الله ثَوابَهُ ، فَضْلاً منهُ وكَرماً ، ومَنْ جَاءَ بالسيئة فَلاَ يُجزَى إِلاَّ مِثْلَها ، عَدلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً .

---------

فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء.

طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية.

فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.

فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!

استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية: قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } (76) سورة القصص.

بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.

فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:

الأمر الأول:
أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.

والأمر الثاني:

الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.

فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغى عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.

وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.

هو الرزق لا حل لديك ولا ربط …
ولا قلم يجدي عليك ولا خط
فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً…
وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو


يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.

هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة

رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.

المشهد الثاني:

مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه .

ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة.

وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص .

فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟

أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ..} (78) سورة القصص.

أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.

ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: {.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (78) سورة القصص .

كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.

ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79) سورة القصص.

وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص.

فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فيجب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون، الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.

ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (81) سورة القصص.

فابتلعته وابتعلت داره , وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال. وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس .

هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة.

هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِى بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمْرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » .

وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (82) سورة القصص.

وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس , ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله .

فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء .

وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال , ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين , ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .

ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (83) سورة القصص.

تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها .

إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله , ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .

(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه .

الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها . والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (84) سورة القصص

--------------

بعض الدروس المستفادة من القصة:

1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ » .

2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.

أما ترى البحر والصياد منتصبٌ …
لرزقه ونجوم الليل محتبكه
قد غاص في لُجة والموج يلطمه……
وعينه لم تزل في كلكل الشبكة
حتى إذا بات مسروراً بليلته……
بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه
شراه منه الذي قد بات ليلته ……
خِلْواً من البرد في خير من البركة
سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا ……
هذا يصيد وهذا يأكل السمكة


3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.

يقول أحد المتكبرين:

أتيه على جن البلاد وإنسها ……
فلو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي
أتيه فما أدري من التيه من أنا……
سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي

4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.

5- وفي قوله تعالى Sadوابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا) . يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم .

المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا , كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .

لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها , فتنمو الحياة وتتجدد , وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض .

ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة , فلا ينحرفون عن طريقها , ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم , وتقبل لعطاياه , وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان , ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة , التي لا حرمان فيها , ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .

(وأحسن كما أحسن الله إليك) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف , والإحسان به إلى الخلق , وإحسان الشعور بالنعمة , وإحسان الشكران .

7- من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك , غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح , غير حاسب لله حسابا , ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !

والإسلام يعترف بالملكية الفردية , ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ; ولا يهوِّن من شأن الجهد الفردي أو يلغيه .

ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل , لا يحرم الفرد ثمرة جهده , ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ; ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال , ورقابتها على طرق تحصيله , وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .

7- في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ?

ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .

8- المتصلون بالله لهم ميزان آخر يقيم الحياة , وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا , وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد .

وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم) . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص

ثواب الله خير من هذه الزينة , وما عند الله خير مما عند قارون . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون .

وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض , والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .

9- أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!

10- يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.

11- أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.

12- أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.

13- وهكذا يسوق لنا القرآن فى قصصه العبر والعظات ، لقوم يتذكرون ، فمن قصة قارون نرى أن كفران النعم يؤدى إلى زوالها ، وأن الغرور والبغى والتفاخر كل ذلك يؤدى إلى الهلاك ، وأن خير الناس من يبتغى فيما آتاه الله من نعم ثواب الآخرة ، دون أن يهمل نصيبه من الدنيا ، وأن العاقل هو من يستجيب لنصح الناصحين ، وأن الناس فى كل زمان ومكان ، منهم الذين يريدون زينة الحياة الدنيا ، ومنهم الأخيار الأبرار الذين يفضلون ثواب الآخرة ، على متع الحياة الدنيا ، وأن العاقبة الحسنة قد جعلها - سبحانه - لعباده المتقين ، وأنه - سبحانه - يجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .

يتبع إن شاء الله..

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 6:50 pm

إلياس (عليه السلام)

في منطقة تسمى بعلبك (موجودة حاليًا في لبنان) كان يعيش مجموعة من بني إسرائيل، أغواهم الشيطان فانحرفوا عن منهج الله، يُقَالُ إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ ، وَهُوَ نَبِيٌّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ عَبَدُوا الصَّنَمَ ( بَعْلاً ) ، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ .

فَحَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ اللهِ ، وَقَالَ لَهُمْ : أَلاَ تَخَافُونَ اللهَ فَتَمْتَثِلُوا لأَوَامِرِهِ ، وَتَتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؟

وَاللهُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ الآبَاءِ السَّالِفِينَ فَهُوَ الحَقِيقُ بِالعِبَادَةِ .

فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ ضَرُورَةِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَسَيَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ فِي العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .إِلاَّ الذِين عَبَدُوا اللهَ مِنْ بَيْنِهِمْ ، وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَعذِّبُهُمْ اللهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .

وَجَعَلَ اللهُ ذِكْراً حَسَناً بَيْنَ النَّاسِ تَتَنَاقَلُهُ الأَجْيَالُ ، وَجَعَلَهُ مُحَبَّباً إِلى النَّاسِ جَمِيعاً .

سَلاَمٌ مِنَ اللهِ عَلَى إِلْيَاسَ ( وَإِلْ يَاسِينَ لُغَةٌ فِي إِلْيَاسَ ) .وَمِثْلُ هَذَا الجَزَاءِ الحَسَنِ الذِي جَازَى اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ إِلْيَاسَ ، يُجَازِي عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ المُحْسِنِينَ .

وَإِنَّ إِلْيَاسَ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ .

قال تعالى مبينا قصته: { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) [الصافات: 123-132].

وقد مدح الله -سبحانه- إلياس -عليه السلام- وأثنى عليه ثناءً جميلاً، وذلك لأنه أخلص في العبادة، وأحسن في عمله، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} (85) سورة الأنعام.

اليسع (عليه السلام)

نبي من أنبياء الله، ذكره الله في كتابه العزيز مرتين، وأثنى عليه، ولم يشر القرآن الكريم إلى قصة اليسع ولا إلى قومه، وروي أنه أرسل إلى بني إسرائيل بعد إلياس -عليه السلام- ومكث بينهم فترة يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته حتى توفاه الله -تعالى- وبعد وفاة اليسع -عليه السلام- كثرت ذنوب بني إسرائيل، وازدادت معاصيهم، وقتلوا من جاءهم من الأنبياء بعد ذلك فسلط الله عليهم ملوكًا جبارين يحكمونهم، وسلط الله عليهم الأعداء.

وقد بين الله -سبحانه- لنا فضل اليسع -عليه السلام- عندما ذكره مع إخوانه الأنبياء -صلوات الله عليهم- فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام/85-90]

أي وَهَدَى اللهُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ أَيْضاً : زَكَرِيّا وَابْنَهُ يَحْيِى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَإِلْيَاسَ ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ جَمِيعاً مِنَ الصَّالِحِينَ . وَكَانَتْ لِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ مِيزَةُ الزُّهْدِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها ، وَزِينَتِهَا ، لِذَلِكَ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ .

وَمِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ ، يَذْكُرُ تَعَالَى : إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ، وَاليَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوْطاً فَهَدَاهُمْ ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّة ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُهْتَدِينَ ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ .
وَهَدَى اللهُ بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - لاَ كُلّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم ، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ - . وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ .

وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ أَحَداً ، لَهَلَكَ عَمَلُهُمْ ، وَلَضَاعَ أَجْرُ أَعَمْالِ الخَيْرِ التِي عَمَلُوهَا، ( وَهَذا تَشْدِيدٌ لأَمْرِ الشِّرْكِ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ ).

أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ ( صُحُفَ إِبْرَاهِيم ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى ) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ ( الحُكْمَ ) ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ ( هَؤلاءِ ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً ، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً . ( وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ ) .

وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً ، فَاهْتَدِ ، يَا مُحَمَّدُ ، بِهُدَاهُمْ ، وَاقْتَدِ بِهِمْ ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ ، وَالعَفْوِ عَنْهُم ، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ ( ذِكْرَى ) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ .

ولقد أثنى الله على اليسع -عليه السلام- فقال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ} (48) سورة ص.

أي وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ .

يتبع إن شاء الله...


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:02 pm

داود(عليه السلام)

لقد ذكر الله لنا في القرآن قصصاً كثيرة، وهذه القصص جاءت متنوعة متكررة، بل ربما تكررت القصة الواحدة عشرات المرّات في عشرات السور، بعضها بشكل إجمالي وبعضه تفصيلي.

والقصص لم ترد في القرآن إلا لتدبرها والوقوف عندها، وكثير منها يعالج ما يستجد في حياة الناس من قضايا وأحداث، وهذا بعض معجزات القرآن. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ [ص:29]، قال الله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

إن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وإنه هو مدرستها التي تتلقى فيه دروس حياتها وتستمع فيه إلى الإرشادات والتوجيهات.

إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى، ولا مجرد آيات تُحفظ وتردد، أو تعاويذ يتبرك بها، بل هو دستور شامل، دستور للتربية كما أنه دستور للحياة العملية، بل هو منهج الحياة، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة حية، على أهل الإسلام الذين يربيهم المولى جل وعلا بالأحداث والأقدار، فيُهرعون إلى القرآن فيجدونه غضاً طرياً كأنما أنزل البارحة في أحداثهم وشؤونهم، يقدم القرآن الزاد لأمة الإسلام في جميع أجيالها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:2، 3].

ولهذا تتنوع القصص في كتاب الله ويكثر ضرب الأمثال للقياس والاعتبار كما قال سبحانه في إجلاء بني النضير فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الأَبْصَارِ [الحشر:2].

ولهذا المعنى تجد في سرد القصص القرآني متعة إيمانية وحقائقَ وجودية تتكرر في الأمم والأجيال ما وجدت نفس تتحرك.

ومن أكثر القصص وروداً في القرآن قصص بني إسرائيل، ومن أهم أسباب ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الأمة ستمرُّ في بعض أجيالها بالأدوار التي مر بها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف مشابهة بمواقف بني إسرائيل، فلهذا عرض الله عليها مزالق الطريق مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة، ولترى صورتها في تلك المرآة المرفوعة في آيات القرآن، فتتجنب المزالق والنكبات.

ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأَه لنتلمس عنده توجيهات حياتنا المعاصرة في يومنا وغدنا، كما كان الصحابة الكرام تتلقاه، وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على بال، سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته وقصصه حية نابضة، تنبض وتتحرك وتشير إلى طريق الخلاص والنجاة، وتقول لنا: هذا فافعلوه، وهذا لا تفعلوه، وتقول لنا: هذا عدو، وهذا صديق، وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة، وكذا فاتخذوا من العدة، وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة، وعندها سندرك معنى قول الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فهي دعوة للحياة الدائمة المتجددة تحت ظلال آيات القرآن، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.

ومن قصص القرآن ما قصه الله علينا في حادثة جرت لبني إسرائيل بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام، بعدما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذَلوا لأعدائهم، وذاقوا الويلات منهم بسبب ترك الوحي والتوراة، ثم انتفضت نفوسهم، انتفضت فيها العقيدة والإيمان، واشتاقوا للقتال في سبيل الله، وعلموا أنه لا عز لهم إلا بالجهاد في سبيله، فقالوا لنبيٍ لهم: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]}.

لقد اجتمع ملأٌ من بني إسرائيل من أهل الرأي والمشورة فقالوا لأحد أنبيائهم: عيّن لنا ملكاً نقاتل تحت رايته في سبيل الله، لا في سبيل غيره، وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في سبيل الله، فيه إشارة إلى انتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وحق، وأن عدوهم على ضلال وكفر وباطل.

إن هذا الوضوح في انتفاضة العقيدة هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل، وأنه مسلم، وعدوُه كافر، ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف، وهو في سبيل الله، فلا يغشاه غبش أو ظلمة لا يدري معها أين يسير؟!

واستوثق منهم نبيهم، وهو يعلم حال أمته من خُلف الوعد ونقض العهد ونكث المواثيق فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ فأنتم في سعة الآن، فأما إذا استجبتم فتقرر القتال، فتلك فريضة مكتوبة، ولا يمكن أن ننكل عنها كلمة تليق بنبي صادق يخبر عن كوامن النفوس وضعفها، وههنا تُستثار الحماسة في نفوسهم فيقولون: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.

فالأمر واضح عندهم، أعداؤهم أعداء الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبَوا أبناءهم، ولكن هذه الحماسة لم تدم، فها هو القرآن يقول: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ تذهب الحماسات التي انتفخت في ساعات الرخاء، وليست هذه سِمَة خاصة ببني إسرائيل وحدهم، بل هي سِمَة لكل جماعة أو طائفة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة وصفة بشرية عامة لا يغيرها إلاّ التربية الإيمانية العميقة، ولهذا عقب الله على فعلهم بقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وهو يشير بشيء من الإنكار ووصم الكثرة الكاثرة بالظلم، فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي طالما تغنت به فخذلته، وهي تعرف أنه الحق وتخلت عنه للمبطلين. وكم من الناس في دنيا الناس اليوم من يعرف الحق، لكنه يخذله ولا ينصره {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.

ثم يمضي السياق القرآني ليغور في النفس الإسرائيلية، ويقدم لنا تجارب حية نلمسها في حياتنا اليومية، وذلك بعد أن بين اختيار النبي لطالوت ملكاً عليهم، فأنكروا ذلك، وهم الذين طلبوا تعيينه ثم بيّن النبي لهم أن الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم، فهو وحي من الله ولا بد من التسليم له، ثم أخبرهم عن آية ملكه وشرعيته بمجيء التابوت{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:247، 248]}.

وينتقل بنا السياق القرآني إلى أهم أحداث هذه القصة فيقول: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ [البقرة:249]}، ويتجلى في هذا المقطع مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل "طالوت" إنه مُقدِمٌ على معركة، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة قوية كثيرة العدد مدججة السلاح، فلا بد إذن من قوة كامنة يضيفها لأتباعه تقف بها أمام القوة الظاهرة الغالبة، وأدرك أن هذه القوة لا تكون إلا في الإرادة، الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، الإرادة التي تصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، الإرادة التي تُؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، مهما كان ثمنها، فتجتاز بإرادتها الابتلاء بعد الابتلاء.

ولهذا أراد طالوت أن يختبر الأتباع والجنود فقال: { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } وصحت فراسة طالوت في أتباعه المتحمسين ويأتي الجواب بشربهم من النهر{ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ }فئة تُقاتل عدوها تُبتلى بالعطش!

ومن يأمرها به؟ الله من فوق سبع سماوات! أيّ تربية هذه؟ ما الغاية؟ وما الهدف؟

لقد سقط الضِّعاف في الاختبار وتمحّص الصف، وتخلف المتخلفون بعصيانهم{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]}.

كان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن طالوت وأتباعه ،لأنهم بِذرة ضعف وخذلان وهزيمة، الجيوش ليست بالعدد الضخم ولا بالقوة المادية ولا بعابرات القارات ولا بالقنابل العنقودية والانشطارية، ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة وقبله الإيمان الثابت.

وكان ذلك النهر هو النهر الذي يفصل بين الأردن وفلسطين، قال السُّدي رحمه الله: كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب من النهر ستة وسبعون ألفاً، وتبقى مع طالوت أربعة آلاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من اغترف غرفة بيده رَوَى، ومن شرب منه لم يروَ).

والثابت في صحيح البخارى (3958 ) عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَمِائَةٍ ".

وهل انتهت الغربلة عند هذا الحد؟ لم تنتهِ التجارب بعد ذلك لأن النفس البشرية لا يمكن التنبؤ بمفاجآتها:{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة:249]}.

لم يكونوا يستشعرون أنهم قلة، فلما رأَوا الواقع رأَوا أنهم أضعف من مقاومته لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ إنهم مؤمنون لم ينكِصوا عن عهدهم مع نبيهم ولا ملكهم، ولكنهم أمام أعداد ضخمة وأسلحة متنوعة، وفي مثل هذه الحال لا يصمد إلاّ من كانت له موازين غير موازين الدنيا، برزت في هذه اللحظة الصعبة فئة قليلة من ثلاثمائة وبضعة عشر، صَفوة الصَّفوة ونخبة النخبة، برزت ههنا فئة مؤمنة متصلة بالموازين الربانية، فتكلموا من واقع إيمانهم وثقتهم بالله، أمام الجيوش الكبيرة والأعداد الغفيرة والأسلحة الثقيلة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

وتأمل اللفظ كَم مّن فِئَةٍ صيغة تكثير، وهذا يدل على أن من بين الثلاثمائة وبضعة عشر قوم استقرؤوا أحوال الأنبياء والرسل من قبلهم، واستحضروا نصر الله لهم في أصعب اللحظات:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]}، وقال سبحانه في الآية الأخرى:{ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]}.

إن المؤمن المتجرد من موازين الدنيا، والمتعلق بالموازين الربانية، يدرك قاعدة عظيمة من قواعد السنن الربانية، هذه القاعدة تقول: إن المنصورين قلة، وعادة ما يوصفون بأنهم فئة أو شرذمة، وقد قال هذا فرعون من قبل في موسى وأتباعه: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56]}، هذه الفئة المؤمنة إذا ثبتت على إيمانها، رَقَت الدَّرج الشاق وصعِدت السلم الطويل، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، لأنها اتصلت بالله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين، وهي في كل ذلك تكِل النصر إلى الله فتقول: { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]}، ويعللون نصرهم بعلته الحقيقية وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلولا صبرهم لما انتصروا.

ونمضي مع القصة لنرى فيها مزيداً من العبر والدروس، نشاهد فيها أن الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، لم تزلزلها كثرة العدد، ولا قوته مع ضعفها وقلتها، بل في مثل هذه اللحظات هي التي تحدد وتقرر مصير المعركة، بعد أن تجردت لربها، وأخلصت له، وانقطعت عن الخلق، واتصلت بالخالق، واستغنت عن جميع الناس، هنا يقول الله تعالى عنهم:{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:250، 251]}، فبرزوا وظهروا للعيان أمام الأعداء وقالوا:{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]}.

إيمان أمام كفر، وحق أمام باطل، وتَمَنٍّ للشهادةِ والموت أمام حِرْص على الحياة، ماذا تكون النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ }ويُعلّمَ القرآن المؤمنين أن النصر على الأعداء بإذن الله لا بإذن غيره، ليتضح التصور الكامل للوجود، ولما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تحركه.

إن المؤمنين ستار رقيق لقدرة الله، يفعل الله بهم ما يريد، ويُنفّذ بهم ما يختار بإذنه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه، وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين، إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه مِنَّة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قَدَر الله النافذ، ثم يكرمه الله بعد كرامة الاختيار بفضل الثواب ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أُثيب.

ويستيقن المؤمن وهو يقاتل أعداء الله نبل الغاية، وطهارة القصد، ونظافة الطريق، فليس له في شيء من هذا كله مصلحة ذاتية، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد، استحق هذا كله بالنية الطيبة، والعزم على الطاعة، والتوجه إلى الله في خلوص.

ويبرز في السياق داود عليه السلام فيقول الله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة:251]}، كان داود فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مهيباً، ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك، أن الأمور لا تجري بظواهرها إنما تجري بحقائقِها، وحقائقُها لا يعلمها إلاّ هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد الله أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم الظالم على يد هذا الفتى الصغير داود، ليريَ الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم إنما هم ضعاف، يغلبهم الفتية الصغار، حين يشاء الله أن يقتلهم.

ومن الحكم البليغة في هذه القصة: أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، وكانت بدايات التمكين هي تلك الانتفاضة، انتفاضة العقيدة والايمان في نفوسهم، بعد الضلال والانتكاس والشرود.

وتصل بنا القصة إلى هذه الخاتمة، ويعلَن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة المادية وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العددية، حينئذ تأتي الآيات القرآنية مُعلنةً عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى، إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات، إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]}.

وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث والأسماء، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموَّار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف، تموج بالناس في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات، ومن ورائها جميعاً قدرة الله تعالى، تقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف.

وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله، إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وأن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله، وابتغاءً لرضاه، وهنا يُمضي الله أمره وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله، لا بد وأن تَغْلِبَ في النهاية وتنتصر، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. قال الله تعالى :{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]}، وقال سبحانه: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18]}، وقال عز وجل: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]}، وقال تعالى: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]} ..

وجمع الله لداود الملك والنبوة، فكان ملكًا نبيًّا، وأنزل عليه الزبور، وهو كتاب مقدس فيه كثير من المواعظ والحكم، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (163) سورة النساء .

وأعطى الله لداود صوتًا جميلاً لم يعطه لأحد من قبله، فكان إذا قرأ كتابه الزبور، وسبح الله، وقف الطير في الهواء يسبح الله معه، وينصت لما يقرؤه وكذلك الجبال فإنها كانت تسبح معه في الصباح والمساء، قال تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) } [ص :18-20] .

وأيد الله داود بمعجزات كثيرة دالة على نبوته، فألان له الحديد، حتى يسهل عليه صنع الدروع والمحاريب التي تستخدم في الحروب والقتال قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }سورة سبأ.

وقال تعالى في قصة اختبار وامتحان النبي داود عليه السلام : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) }[ص/21-26]

أي وَهَلْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ ذَلِكَ النَّبَإِ العَجِيبِ، نَبَأ الخُصُومِ الذِينَ تَسَلَّقُوا سُورَ الغُرْفَةِ التِي كَانَ دَاوُدُ يَتَعَبَّدُ رَبَّهُ فِيهَا ( المِحْرَابَ ) ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّورِ ، لاَ مِنَ البَابِ ، وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ؟

وَقَدْ دَخَلَ الخَصْمَانِ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ إِلَى النَّاسِ ، فَخَافَ هُوَ مِنَ الدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ بِالتَّسَوُّرِ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ بِالتَّسَوُّرِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ شَرّاً ، فَطَمْأَنَهُ الخَصْمَانِ ، وَقَالاَ لَهُ إِنَّهُمَا خَصْمَانِ تَجَاوَزَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ ، وَقَدْ جَاءَا إِلَيْهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالحَقِّ والعَدْلِ ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَجُورَ فِي حُكْمِهِ ، وَأَنْ يَهْدِيَهُمَا إِلَى الحُكْمِ السَّوِيِّ العَادِلِ .

وَقَالَ أَحَدُ الخَصْمَينِ لِدَاوُدَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ شَاةً وَاحِدَةً وَإِنَّ صَاحِبَهُ يَمْلِكُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ شَاةً ( نَعْجَةً ) ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ مَالِكُ النِّعَاجِ الكَثِيرَةِ : أَعْطِنِي نَعْجَتَكَ لأَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِي ، وَأْكْفُلَهَا لَكَ ، وَغَلَبَنِي فِي المُحَاجَّةِ ، لأَنَّهُ جَاءَ بِحُجَجٍ - لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا دَفْعاً .

فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُتَكَلِّمِ مِنَ الخَصْمَين : إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ ظَلَمَكَ وَجَارَ عَلَيْكَ إِذْ طَلَبَ مِنْكَ نَعْجَتَكَ الوَحِيدَةَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ . وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الذِينَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَجورُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَثْنَاءَ التَعَامُلِ ، إِلاَّ المُتَقَّينَ الصَّالِحِينَ ، فَهؤُلاَءِ يُرَاقِبُونَ الله وَيَخْشَوْنَهُ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ والجَورِ وَلكِنَّ هَؤُلاَءِ قَلِيلُونَ .

وَلَمَّا تَوَارَى الخَصْمَانِ أَدْرَكَ دَاوُدُ أَنَّ اللهَ أَرَادَ اخْتِبَارَهُ وَفِتْنَتَهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ، وَخَرَّ سَاجِداً تَائِباً .

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ، وَغَفَرَ لَهُ ، وَسَتَكُونُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُ اللهُ بِهَا ، وَسَيَكُونُ لَهُ حُسْنُ مَرْجِعٍ ، لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِ فِي مُلْكِهِ .

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ : إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ ، وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى .

ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ( يَوْمَ الحِسَابِ ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ ، وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا .

وكان داود يتقرب إلى الله بالذكر والدعاء والصلاة، لذلك مدحه الله بقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص.

يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء قَبْلَهُ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ ، وَاسْتَهْزَأَتْ بِهِمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتْكُونُ لَهُمْ ، وَأَنَّ الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ سَيَكُونُونَ هُمُ المَخْذُوِلِينَ الخَاسِرِينَ .

وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً بالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الكَفَرَةُ الطُّغَاةُ مِنْ قَوْمِهِ الذِين قَالُوا عَنْهُ مَرَّةً سَاحِرٌ ، وَمَرَّةً مَجْنُونٌ ، وَمَرَّةً كَذَابٌ.. وَقَالُوا عَنْهُ سَاخِرِينَ: أَأُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ دُونِنَا .

وَيُذَكِّرُ اللهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، الذِي حَبَاهُ اللهُ بالقُوَّةِ والسُّلْطَانِ ( ذَا الأَيْدِ )، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ أَوَّاباً كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى رَبِّهِ ، طَائِعاً تَائِباً َذَاكِراً ، وَكَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ، وَكَانَ يَقُومُ ثُلُثَ الليلِ مُتَعَبِّداً رَبَّهُ .

وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِى يُبَلِّغُنِى حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى وَأَهْلِى وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ ». قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ قَالَ « كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ ».. [الترمذي].

وعَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِىِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ » أخرجه البخاري .

وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده، لأنه يعلم أن أفضل الكسب هو ما يكسبه الإنسان من صنع يده، عَنِ الْمِقْدَامِ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » [البخارى]

وقد مات داود -عليه الصلاة والسلام- وتولى من بعده ابنه سليمان -عليه السلام- الحكم وجعله الله نبيًّا، قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16) سورة النمل.

---------------

الدروس والعبر

1- تجليات فضل اللَّه على عباده.

ترادف نعم اللَّه على عباده عامة وعلى أنبيائه وأوليائه خاصة لا ينكره إلا جاحد، وقد خصَّ اللَّه نبيه داود بمزيد من فضله وظهر ذلك واضحًا في المظاهر الآتية:

سخر اللَّه له الجبال والطير تردد معه ذكره وتسبيحه.
ألان في يده الحديد فصار كالعجينة يصنع منه ما يشاء.
يسَّر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك فجمع له الخيرين خير الدنيا والآخرة.
أنعم عليه بالقوة في البدن والحكمة في الرأس والعدل في الحكم.
أنعم عليه بالذرية الصالحة: "وورث سليمان داود".

2- الشكر قيد النعمة:

شكر النعمة يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، ويمنع النقمة، وبهذا قضى العزيز الحميد، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7) سورة إبراهيم، وقليل من الناس من يعرف النعمة فيقرُّ بها للمنعم سبحانه ويشكره عليها بوضعها فيما أمر سبحانه، وكان داود عليه السلام من هذا القليل الشاكر، فاستحق من اللَّه الثناء: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ.

3- بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم:

لم يشكر اليهود نعمة اللَّه عليهم بإنزال التوارة، فحرفوها وبدلوها ولم يعملوا بما فيها، ولم يشكروا نعمة اللَّه عليهم بتتابع الأنبياء فيهم، فآذوا أنبياء اللَّه حال حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من قتلوه، ومن ذلك ما فعلوه مع نبي اللَّه داود عليه السلام وهو المبجل فيهم، فوصفوه بالثائر السفاح الذي يحب سفك الدماء وإقامة الملك على جماجم البشر.

وإن شئت التفاصيل فراجع العهد القديم، سفر الملوك الثاني الفصول من (5- 20)، وكذلك ما نسبوا إلى نبيهم داود زورًا وبهتانًا أن داود عليه السلام قد رأى امرأة جاره وهي تغتسل فأحبَّها حبًا شديدًا، فأرسل زوجها في إحدى المعارك، وأمر القائد أن يجعله في المقدمة لعله يقتل فيتزوج امرأته، وتوراة اليهود التي كتبوها بأيديهم- وليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى- تمتلئ بهذه السفاهات التي أنزه سمع القارئ وبصره عنها.

فهم لم يتركوا نبيّا إلا أساءوا إليه، بل لم يسلم اللَّه سبحانه وتعالى من افتراءاتهم، فتعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا. ومن هنا فقد حذرنا اللَّه أن نكون مثلهم، وذكر ذلك في كتابه الكريم تصريحًا وتلميحًا.

4- أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده:

هذا أيضًا مما تعلمناه من قصة داود عليه السلام، فعلى الرغم من كونه خليفة في الأرض وملكًا على أمة امتد ملكها، إلا أنه كان يأكل من عمل يده:{ وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد}، فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.

وهكذا الأنبياء والصالحون، فمنهم من كان يرعى الغنم، ومنهم من كان نجارًا؛ كزكريا عليه السلام، ومنهم من عمل بالنجارة زمنًا مثل نوح عليه السلام، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة رضي اللَّه عنهم كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدق من عمل يده.

فقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت، حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده وفي طلب الرزق، ومن عجب أن يخفى ذلك على كثير من شبابنا ممن يدعون طلب العلم ويتخذونه حرفة لهم، حتى أصبحوا عالة على غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

5- من المعجزات المحسوسة

أن ألان اللَّه الحديد لداود عليه السلام فجعله مطاوعًا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات اللَّه الكونية ودليل على قدرة اللَّه سبحانه، فهو الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وجعل الماء سلاحًا أغرق فرعون، ونجا موسى، وألان الحديد لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار؛ ولكن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة.

6- وفي قوله تعالى :

{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل - عليهم صلوات الله - الطريق الذي يضمهم أجمعين . فكلهم سار في هذا الطريق . كلهم عانى . وكلهم ابتلي . وكلهم صبر . وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً . كل حسب درجته في سلم الأنبياء . . لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات ; مفعمة بالآلام ; وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء. وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال.

ونستعرض حياة الرسل جميعاً - كما قصها علينا القرآن الكريم - فنرى الصبر كان قوامها , وكان العنصر البارز فيها . ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها . .

لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك - صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية , لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات ; وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض ; وتتجرد من الشهوات والمغريات ; وتخلص لله وتنجح في امتحانه , وتختاره على كل شيء سواه . . ثم لتقول للبشرية في النهاية:هذا هو الطريق . هذا هو الطريق إلى الاستعلاء , وإلى الارتفاع . هذا هو الطريق إلى الله .

7- وهذا التسبيح من الجبال لله - تعالى -

إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو - عز وجل - بدليل قوله - سبحانه - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها : المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها : أن تقييد التسبيح بكونه بالعشى والإِشراق .

وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها فى كل وقت ، ولا يختص بكونه فى هذين الوقتين أو مع داود . وخص - سبحانه - وقتي العشي والإِشراق بالذكر . للإِشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما .

8- قال القرطبى في تفسيره:

فإن قيل : لِم فزع داود وهو نبيّ ، وقد قويت نفسه بالنبوّة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] فقال الله عز وجل : «لاَ تَخَافا» . وقالت الرسل للوط : { لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } [ هود : 81 ].

ألا ترى إلى موسى وهارون - عليهما السلام - كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } - أى : فرعون - ، فقال الله لهما : { لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } ثم بين - سبحانه - ما قاله أولئك الخصوم لداود عندما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع ، فقال : { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط }.

9- أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب

قصة حقيقية ، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما ، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم ، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه ، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث .

فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه ، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله -تعالى- له ، والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى.

قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم . . .

وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .

والخلاصة :

أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها .

قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه : " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود .
وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم .

ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء . فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل ، وزاد فى القرآن ما ليس فيه . . لأن الله - تعالى - يقول : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم } فقال لهو : لم يكونوا خصمين . ولا بغى بعهضم على بعض . ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة . ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له : { أَكْفِلْنِيهَا . . } .

10- هناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات . منها :

أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر .

قال الإِمام الرازى ما ملخصه :

لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر ، فإنه لما قال له : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ . . } فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل .

والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب ، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته ، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا ، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر .

قال صاحب الكشاف :

فإن قلت : كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين ، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت : ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه ، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم ، ويروى أنه قال : أريد أخذها منه وأكمل نعاجى مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا . وأشار إلى طرف الأنف والجبهة . .

والخلاصة أن الخصومة حقيقية بين اثنين من البشر

واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه ، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به ، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة ، فاستغفر ربه من ذلك الظن . فغفر الله - تعالى - له
.
يتبع إن شاء الله..

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:09 pm

سليمانُ(عليه السلام)

نبي من أنبياء الله، أرسله الله إلى بني إسرائيل، وتولَّى الملك بعد وفاة والده داود -عليهما السلام- وكان حاكمًا عادلاً بين الناس، يقضي بينهم بما أنزل الله، وسخر الله له أشياء كثيرة: كالإنس والجن والطير والرياح... وغير ذلك، يعملون له ما يشاء بإذن ربه، ولا يخرجون عن طاعته، وإن خرج منهم أحدٌ وعصاه ولم ينفذ أمره عذبه عذابًا شديدًا، وألان له النحاس، وسخر الله له الشياطين، يأتون له بكل شيء يطلبه، ويعملون له المحاريب والتماثيل والأحواض التي ينبع منها الماء.

قال تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12-14] } .

وعلم الله -سبحانه- سليمان لغة الطيور والحيوانات، وكان له جيش عظيم قوى يتكون من البشر والجن والطير، قال تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) } [النحل:17].

وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ ، أثْنَاءَ السَّيْرِ .

وكان سليمان دائم الذكر والشكر لله على هذه النعم، كثير الصلوات والتسابيح والاستغفار، وقد منح الله عز وجل سليمان -عليه السلام- الذكاء منذ صباه، فذات يوم ذهب كعادته مع أبيه داود -عليه السلام- إلى دار القضاء فدخل اثنان من الرجال، أحدهما كان صاحب أرض فيها زرع، والآخر كان راعيًا للغنم، وذلك للفصل في قضيتهما، فقال صاحب الأرض: إن هذا الرجل له غنم ترعى فدخلت أرضى ليلاً، وأفسدت ما فيها من زرع، فاحكم بيننا بالعدل، ولم يحكم داود في هذه القضية حتى سمع حجة الآخر، عندها تأكد من صدق ما قاله صاحب الأرض، فحكم له بأن يأخذ الغنم مقابل الخسائر التي لحقت بحديقته، لكن سليمان -عليه السلام- رغم صغر سنه، كان له حكم آخر، فاستأذن من أبيه أن يعرضه، فأذن له، فحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها، ويأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بلبنها وصوفها، فإذا ما انتهى صاحب الغنم من إصلاح الأرض أخذ غنمه، وأخذ صاحب الحديقة حديقته.

وكان هذا الحكم هو الحكم الصحيح والرأي الأفضل، فوافقوا على ذلك الحكم وقبلوه بارتياح، وأعجب داود -عليه السلام- بفهم ابنه سليمان لهذه القضية مع كونه صغيرًا، ووافق على حكم ابنه، وقد حكى الله -عز وجل- ذلك في القرآن قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) [الأنبياء/78-81] }.

موقف سليمان عليه السلام مع النملة فيقول الله عز وجل: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } [النمل/17-20].

إن الله سبحانه وتعالى آتى سليمان خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، ومع هذا فقد أعطى عليه الصلاة والسلام، ملكاً عظيماً وسلطاناً واسعاً، ومع هذا العلم الذي أعطى سليمان، ومع هذا الملك أيضاً، لم يمنعه كل هذا، أن يأخذ درساً من أصغر مخلوقات الله، وهي النملة، ويستفيد منها، ولم يغتر بملكه ولا بعلمه عليه الصلاة والسلام، كما هو شأن بعض حاملي الشهادات في زماننا هذا، والله المستعان.

يقف سليمان عليه السلام، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطاناً كسلطانه، وملكاً كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله، بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله، فيقول في محراب ملكها، الذي يسبح فيه بحمد الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

لقد أراد الله سبحانه وتعالى، أن يصغر في عيني سليمان هذا الملك العريض، الذي بين يديه، وأن يكسر من حدة هذا السلطان المندفع، كالشهاب الذي لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كي لا يدخل على نفسه شيء، من العجب والزهو، فتقف له النملة، هذا الموقف، الذي يرى منه عجباً، فيرى سليمان عليه السلام من النملة، ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمع أحد غير النمل، الذي يعيش معها: ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].

والدرس الذي نود أن نأخذه من موقف سليمان عليه السلام مع النملة، هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ جماعة النمل حذرها، ولتدخل مساكنها، ولتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق، ومن أين هذا الهلاك؟

من جماعة غالباً، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطن أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة، فهل يشعر من يسكن البيوت الفارهة، بما يعاني عباد الله من ساكني العشش والخيام، وكم في دنيا الناس، من المستضعفين ممن تطؤهم أقدام الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم.
وكم من مجتمعات بشرية، جرفها تيار عاتٍ من تيارات الظلم والاستبداد، وكم من مدن عامرة دمرتها رحى الحروب، التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود، وكم وكم، إنها والله لحكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة، حيوان ضئيل من مخلوقات الله، وأقلها شأناً تلقيه على الإنسانية كلها، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها.

ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة، فحاد بركبه عن وادي النمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله ونعمته، فيقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

إن للنملة سلطاناً كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجنداً كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة، وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائماً على مواقع الخير، ترتاده لرعايتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل السلطان الحكيم، وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو، الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ نعم كان النبي سليمان عليه السلام كذلك .

وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:20-27].

حشد سليمان عليه السلام جموعه ورعيته، فنظر فلم ير الهدهد قد حضر هذا الحفل، فتوعده سليمان عليه السلام بأشد العذاب والنقمة،{ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }[النمل:21].

أما كان للهدهد عذر يمكن أن يقدمه لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب، ألا يجوز أن يكون مريضاً، ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ وماذا يغني الهدهد في هذا الجمع العظيم، وماذا يجدي أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، لكنه الانضباط التام، والملاحظة العجيبة عند سليمان الملك، وكيف أنه يتفقد رعيته كاملاً، ويهمه حضورهم ووجودهم حتى لو كان مخلوقاً ضعيفاً كالهدهد.

وفي قول سليمان عليه السلام: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ }درس عظيم، لابد من الوقوف عنده، فسليمان عليه السلام حين نظر ولم ير الهدهد، اتهم نفسه أولاً، فقال: مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ، ولم يقل أين الهدهد، ولم يقل: إن الهدهد غائب.

لأنه يحتمل أن يكون موجوداً، لكنه هو عليه السلام ما رآه، وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا هم التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها في أيديهم، تشككوا واتهموا أولاً أسلوب تفكيرهم، الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر مرةً بعد مرة، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة، ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فلينتبه لهذه القضية.

درس آخر، يعلمنا هذا الهدهد، وهو أنه في تأخره الحضور، مع سليمان، بماذا كان منشغلاً، وما الذي أخره عن الحضور، لقد كان منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل، والإنكار على المشركين شركهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير آلهتهم التي يعبدونها من دون الله،{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ }[النمل:24].

لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، حيث إنهم محسوبين على الدعوة، يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية الواضحة، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ذلك، ولا يمنعهم ذلك أن يؤاكلوهم، أو يجالسوهم، أو يشاربوهم، فهل لنا في هذا الهدهد أسوة حسنة، حيث إنه أنكر على ملكة دولة في زمانها وهي ملكة سبأ.

وأما عن القصة الثالثة، لنبي الله سليمان عليه السلام، فكانت مع ملكة سبأ، وتسمى بلقيس، وأرض سبأ باليمن، وسميت كذلك نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحان، وسمي هو سبأ، لأنه أول من سبي السبي من ملوك العرب، وأدخل السبايا إلى اليمن.

فبعد ما رجع الهدهد، وأخبر سليمان عليه السلام بما رآه وشاهده في أرض اليمن، من وجود امرأة تحكمهم، وأن لها دولة، أرسل سليمان عليه السلام الهدهد، إلى أرض سبأ وأعطاه رسالة إلى ملكة سبأ، طار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، تناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية:{ اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ }[النمل:28-33].

ولنا وقفة مع قول بلقيس، في قول الله عز وجل: {قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ }[النمل:32]، إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وإنها الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند حدوث بعض المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]

عند ذلك عزمت بلقيس على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.

ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى:{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:34-37]}.

رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها.

عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته، فقال لمن حوله من الجن، أيكم يأتيني بعرش بلقيس، قبل أن تصل إليّ مع قومها، ليروا قدرة الله عز وجل، فقال أحد العفاريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي وتحكم فيه، وكان سليمان يجلس من الصباح إلى الظهر في كل يوم للحكم بين الناس، وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه، قال تعالى: { قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40]}.

فأمَرَ سُلَيمانُ بأَنْ يُجْرُوا بَعْضَ التَّغْيِيرِ في هَيئَةِ عَرْشِ بلْقِيسَ ليخْتَبِرَ مَعْرَفَتَهَا ، وَثَبَاتَها ، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، وَهَلْ تَستطيعُ أنْ تعرِفَ عَرْشَهَا إذا بُدِّلَ فِيهِ وَنُكِّرَ ، أمْ لا تَسْتَطيعُ ذَلِكَ .

فَلَما وصلتْ بِلقيسُ إِلى سُلَيمانَ ، عَرَضَ عليهَا عَرْشَهَا وَقَد غُيِّرَ فيهِ ، ونُكِّرَ ، وزِيْدَ فيهِ ، فَسَأَلها أهَكَذا عرشُكِ؟ ولكِنَّها اسْتَبْعَدَتْ أن يُحْمَلَ عرشُهَا مِنْ تلكَ المَسافاتِ البَعيدةِ ، فقالتْ كأَنَّهُ هُوَ ، فهُوَ يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُه وقيل إِنَّ جَوَابَها هَذا دَليلٌ على رَجَاحَةِ عَقْلِهَا ، وفِطْنَتِها وَدَهَائِها ، وثباتِ قَلْبَهَا .

وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً .

أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَكَانوا كَافرين قال سبحانه: {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:41-43]}.

كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً ( صَرْحاً ) عَظيماً من زُجَاجٍ ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي .

ثمَّ قالَ لها سليمانُ : ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها ، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها ، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ ، وليسَ ماء ، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها ، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ ، وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ ، وخالقِ كلِّ شيءٍ .

{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}سورة النمل
وقد أراد سليمان -عليه السلام- أن يبني بيتًا كبيرًا يُعْبد الله فيه، فكلف الجن بعمل هذا البيت، فاستجابوا له، لأنهم مسخرون له بأمر الله، فكانوا لا يعصون له أمرًا، وكان من عادة سليمان أن يقف أمام الجن وهم يعملون، حتى لا يتكاسلوا .

وَلَمّا قَضَى اللهُ تَعَالى عَليهِ المَوتَ ، اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ ، وَلَبِثَ فَتْرَةً وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ ، وَالجِنُّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدِيهِ ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ يَنْظُرُ إِليهِمْ فَلا يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ . ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ إِليهِمُ فَلاَ يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ . ثُمَّ سَخَّرَ اللهُ حَشَرَةً صَغِيرةً أَخَذَتْ تَنْخُرُ عَصَاهُ حَتَّى ضَعُفَتْ فانْكَسَرَتْ وَسَقَطَ سُلَيْمَانُ عَلَى الأَرضِ ، فَعَلِمَتِ الجِنُّ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَلِلْجِنِّ أَنَّ الجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ سَاعَةَ حُدُوثِهِ ، وَلَم يَنْتَظِرُوا حَتَّى تَأْكُلَ دَابَّةٌ الأَرْضِ 'َصَاهُ التِي كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيها فَيَسْقُطَ عَلى الأَرضِ ، وَلَمْ يَسْتَمرُّوا فِي الأَعمَالِ الشَّاقَةِ التِي كَلَّفَهُم بِهِا سُلَيْمَانُ ( العَذَابِ المُهِينِ ) .

قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]}.

وادعى بعض اليهود أن سليمان كان ساحرًا، ويسخر كل الكائنات بسحره، فنفي الله عنه ذلك في قوله تعالى: قال تعالى :{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}سورة البقرة.

وَلَقَدْ صَدَّقُوا مَا تَتَقَوَّلُه الشَّيَاطِينُ وَالفَجَرَةُ مِنُهُمْ عَلَى مَلْكِ سُلَيْمَانَ ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً وَلاَ رَسُولاً يَنْزِلُ عَلَيهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ ، بَلْ كَانَ سَاحِراً يَسْتَمِدُّ العَوْنَ مِن سِحْرِهِ ، وَأنَّ سِحْرَهُ هَذا هُوَ الذِي وَطَّدَ لَهُ المُلْكَ ، وَجَعَلَهُ يُسَيْطِرُ عَلَى الجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ ، فَنَسَبُوا بِذَلِكَ الكُفْرَ لِسُلَيْمَانَ ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الفَجَرَةَ هُمُ الذِينَ كَفَرُوا ، إِذْ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ الأَقَاوِيلَ ، وَأَخَذُوا يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِحْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَمِنْ آثَارِ مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ عَلَى المَلَكِين هَارُوتَ وَمَارُوتَ .

مَعَ أنَّ هذينِ المَلَكِينِ مَا كَانَا يُعَلِّمَانِ أَحَداً حَتَّى يَقُولا لَهُ : إِنَّمَا نُعَلِّمُكَ مَا يُؤَدِّي إلَى الفِتْنَةِ وَالكُفْرِ فَاعْرِفْهُ وَاحْذَرْهُ ، وَتَوَقَّ العَمَلَ بِهِ، وَلَكِنَّ النّاس لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذِهِ النَّصِيِحَةِ ، فَاسْتَخْدَمُوا ، مِمَّا تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المْرِءِ وَزَوْجِهِ .

لَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاءِ الشَّياطِينُ الفَجَرَةُ إِذْ تَقَوَّلُوا هَذِهِ الأقَاوِيلَ ، وَاتَّخَذُوا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ ذَرِيعَةً لِتَعْلِيمِ اليَهُودِ السِّحْرَ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ ، وَأنَّ مَا يُؤَخَذُ عَنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ لَيَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلاَ يُفِيدُهُ شَيْئاً ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ مَنِ اتَّجَهَ هذا الاتِّجَاهَ لَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ أوْ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ ، وَلَبِئْسَ مَا اخْتَارَهُ هُؤُلاءِ لأنْفُسِهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .

وَأَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ بِأَنْ وَهَبَهُ وَلَدَهُ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ عَبداً مُحْسِناً مُطِيعاً للهِ ، حَسَنَ الاعْتِقَادِ والإِيْمَانِ ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (30) سورة ص.

--------------

الدروس والعبر

بين داود وسليمان عليهما السلام

أولاً: قال تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء/78-81].

ومعنى الآيات الكريمة: اذكر- يا رسولنا - لقومك خاصة وللناس كافة قصة داود وسليمان عليهما السلام: إذ يحكمان في الحرث- أي حال كونها يحكمان في الزرع، قيل إنه كان عناقيد تدلت، إذ نفشت فيه غنم القوم أي انتشرت وتفرقت فيه ليلاً بلا راعٍ فرعته وأفسدته.

قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآيات نقلاً عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، قال كرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم (العنب) فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله: ففهمناها سليمان. اهـ.

وحتى لا يفهم القارئ من العبارة السابقة تقليلاً من شأن داود عليه السلام عقَّب ربنا سبحانه وتعالى بعدها مباشرة بقوله: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً}، فداود عليه السلام حكم بالعدل وسليمان عليه السلام حكم بالفضل، وقد أثنى الله على حكمه الذي وفقه إليه لأنه يحب الرفق في الأمر كله كما جاء عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ . فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ » . قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ».

ثم استمرت الآيات الكريمة في بيان ما مَنَّ الله سبحانه به على كل من داود وسليمان فقال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) .

وقد تناولنا ذلك فيما سبق بما يغني عن إعادته، وخلاصة القول: أن الله سبحانه قد خصَّ كلا من النبيين بما يناسبه من فضل ومنِّة، وإن تميز أحدهما بشيء عن الآخر فليس في ذلك انتقاص من فضل الآخر، وهذا أمر مقرر في الشريعة ولولا خشية الإطالة لأوردنا أدلة كثيرة على ذلك.

يجب ألا ننسى أن سليمان قد ورث داود وهو ابنه وكلما نُسب فضلٌ إلى سليمان عليه السلام فهو فضل لداود عليه السلام.

ثانيًا: القصة الثانية كما جاء في صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا ، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ . وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ .

فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى ، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا . فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ . هُوَ ابْنُهَا . فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ . » .

قَالَ الْعُلَمَاء : يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه .

وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنْ الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن الْقَضِيَّة ، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه ، فَلَمَّا أَرَادَتْ الْكُبْرَى قَطْعه ، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه ، فَلَمَّا قَالَتْ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ حَقِيقَة ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِبَار شَفَقَتهمَا ؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ الْأُمّ ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَا ، وَلَعَلَّهُ اِسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى ، فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة الْمَذْكُورَة ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب ، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف حَكَمَ سُلَيْمَان بَعْد حُكْم دَاوُدَ فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة وَنَقَضَ حُكْمه ، وَالْمُجْتَهِد لَا يَنْقُض حُكْم الْمُجْتَهِد ؟

فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه مَذْكُورَة :

أَحَدهَا : أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا .

وَالثَّالِث : لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ فَسْخ الْحُكْم إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْم إِلَى حَاكِم آخَر يَرَى خِلَافه.

وَالرَّابِع : أَنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَة إِلَى إِظْهَار الْحَقّ وَظُهُور الصِّدْق ، فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْحُكْم كَمَا إِذَا اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ هُنَا لِخَصْمِهِ.

ثالثًا: من المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب فله أجران كما صحَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » ..[رواه البخاري]

الأنبياء في النهاية بشر كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم الخاص وليس بوحي، ومن هنا جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَلاَ يَأْخُذْ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ » .

فالحاكم مثاب أصاب أو أخطأ، وعلى القاضي أن يجتهد ما استطاع، والفضل أولاً وآخرًا لله يؤتيه من يشاء .

يتبع إن شاء الله...

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:19 pm

عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام

نُبْذَة:

مِثْل عِيْسَى مِثْل آَدَم خَلَقَه الْلَّه مِن تُرَاب وَقَال لَه كُن فَيَكُوْن، هُو عِيْسَى بْن مَرْيَم رَسُوْل الْلَّه وَكَلِمَتُه أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم، وَهُو الَّذِي بَشَّر بِالْنَّبِي مُحَمَّد، آَتَاه الْلَّه الْبَيِّنَات وَأَيَّدَه بِرُوْح الْقُدُس وَكَان وَجِيْها فِي الْدُّنْيَا وَالآْخِرَة وَمَن الْمُقَرَّبِيْن..

كَلِم الْنَّاس فِي الْمَهْد وَكَهْلا وَكَان يَخْلُق مِن الْطِّيْن كَهَيْئَة الْطَّيْر فَيَنْفُخ فِيْهَا فَتَكُوْن طَيْرا، وَيُبْرِئ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَيُخْرِج الْمَوْتَى كُل بِإِذْن الْلَّه، دَعَا الْمَسِيح قَوْمَه لِعِبَادَة الْلَّه الْوَاحِد الْأَحَد وَلَكِنَّهُم أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوَا وَعَارَضُوْه..

وَلِم يُؤْمِن بِه سِوَى بُسَطَاء قَوْمِه، رَفَعَه الْلَّه إِلَى الْسَّمَاء وَسَيَهْبِط حِيْنَمَا يَشَاء الْلَّه إِلَى الْأَرْض لِيَكُوْن شَهِيْدا عَلَى الْنَّاس.

سِيْرَتِه:

الْحَدِيْث عَن نَبِي الْلَّه عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام، يَسْتَدْعِي الْحَدِيْث عَن أُمِّه مَرْيَم، بَل وَعَن ذُرِّيَّة آَل عِمْرَان هَذِه الذُّرِّيَّة الَّتِي اصْطَفَاهَا الْلَّه تَعَالَى وَاخْتَارَهَا، كَمَا اخْتَار آَدَم وَنُوْحا وَآَل إِبْرَاهِيْم عَلَى الْعَالَمِيْن.

آَل عِمْرَان أَسِرَّة كَرِيْمَة مُكَوَّنَة مِن عِمْرَان وَالِد مَرْيَم، وَامْرَأَة عِمْرَان أَم مَرْيَم، وَمَرْيَم، وَعِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام؛ فَعِمْرَان جَد عِيْسَى لِأُمِّه، وَامْرَأَة عِمْرَان جَدَّتِه لِأُمِّه، وَكَان عِمْرَان صَاحِب صَلَاة بَنِي إِسْرَائِيْل فِي زَمَانِه، وَكَانَت زَوْجَتُه امْرَأَة عِمْرَان امْرَأَة صَالِحَة كَذَلِك، وَكَانَت لَا تَلِد، فَدَعَت الْلَّه تَعَالَى أَن يَرْزُقُهَا وَلَدا، وَنَذَرَت أَن تَجْعَلَه مُفَرَّغا لِلْعِبَادَة وَلِخِدْمَة بَيْت الْمَقْدِس، فَاسْتَجَاب الْلَّه دُعَاءَهَا، وَلَكِن شَاء الْلَّه أَن تَلِد أُنْثَى هِي مَرْيَم، وَجَعَل الْلَّه تَعَالَى كِفَالَتَهَا وَرِعَايَتِهَا إِلَى زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام، وَهُو زَوْج خَالَتِهَا، وَإِنَّمَا قَدْر الْلَّه ذَلِك لِتَقْتَبِس مِنْه عِلْما نَافِعَا، وَعَمَلَا صَالِحا.

كَانَت مَرْيَم مِثَالَا لِلْعِبَادَة وَالْتَّقْوَى، وَأَسْبَغ الَلّه تَعَالَى عَلَيْهَا فَضْلِه وَنَعَّمَه مِمَّا لَفَت أَنْظَار الْآَخِرِين، فَكَان زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام كُلَّمَا دَخَل عَلَيْهَا الْمِحْرَاب وَجَد عِنْدَهَا رِزْقا، فَيَسْأَلُهَا مِن أَيْن لَك هَذَا، فَتُجِيْب: (قَالَت هُو مِن عِنْد الْلَّه إِن الْلَّه يَرْزُق مَن يَشَاء بِغَيْر حِسَاب).

كُل ذَلِك إِنَّمَا كَان تَمْهِيْدا لِلْمُعْجِزَة الْعُظْمَى؛ حَيْث وُلِد عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام مِن هَذِه الْمَرْأَة الْطَّاهِرَة الْنَّقِيَّة، دُوْن أَن يَكُوْن لَه أَب كَسَائِر الْخَلْق، وَاسْتَمِع إِلَى بِدَايَة الْقِصَّة كَمَا أَوْرَدَهَا الْقُرْآَن الْكَرِيْم، قَال تَعَالَى:

وَإِذ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الْلَّه اصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِيْن (42) (آَل عِمْرَان)
بِهَذِه الْكَلِمَات الْبَسِيطَة فَهِمْت مَرْيَم أَن الْلَّه يَخْتَارُهَا، وَيُطَهِّرَهَا وَيَخْتَارُهَا وَيَجْعَلُهَا عَلَى رَأْس نِسَاء الَوَجَوْد.. هَذَا الْوُجُوْد، وَالْوُجُود الَّذِي لَم يَخْلُق بَعْد.. هِي أَعْظَم فَتَاة فِي الْدُّنْيَا وَبَعْد قِيَامَة الْأَمْوَات وَخَلَق الْآَخِرَة..

وَعَادَت الْمَلَائِكَة تَتَحَدَّث:
يَا مَرْيَم اقْنُتِي لِرَبِّك وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَع الْرَّاكِعِيْن (43) (آَل عِمْرَان)

وِلَادَة عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام:

كَان الْأَمْر الْصَّادِر بَعْد الْبِشَارَة أَن تَزِيْد مِن خُشُوْعَهَا، وَسُجُوْدِهَا وَرُكُوْعَهَا لِلَّه.. وَمَلَأ قَلْب مَرْيَم إِحَسَّاس مُفَاجِئ بِأَن شَيْئا عَظِيْمَا يُوْشِك أَن يَقَع.. وَيَرْوِي الَلّه تَعَالَى فِي الْقُرْآَن الْكَرِيْم قِصَّة وِلَادَة عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام فَيَقُوْل:

وَاذْكُر فِى الْكِتَاب مَرْيَم إِذ انْتَبَذَت مِن أَهْلِهَا مَكَانْا شَرْقِيّا (16) فَاتَّخَذَت مِن دُوْنِهِم حِجَابَا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوْحَنَا فَتَمَثَّل لَهَا بَشَرَا سَوِيّا (17) قَالَت إِنِّي أَعُوْذ بِالْرَحْمـن مِنْك إِن كُنْت تَقِيّا (18) قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُوْل رَبِّك لِأَهَب لَك غُلَاما زَكِيّا (19) قَالَت أَنَّى يَكُوْن لِى غُلَام وَلَم يَمْسَسْنِى بَشَر وَلَم أَك بَغِيّا (20) قَال كَذَلِك قَال رَبُّك هُو عَلَى هَيِّن وَلِنَجْعَلَه ءَايَة لِلْنَّاس وَرَحْمَة مِّنَّا وَكَان أَمْرَا مَّقْضِيّا (21) (مَرْيَم)

جَاء جِبْرِيْل –عَلَيْه الْسَّلَام- لْمَرْيَم وَهِي فِي الْمِحْرَاب عَلَى صُوْرَة بِشَر فِي غَايَة الْجَمَال. فَخَافَت مَرْيَم وَقَالَت: (إِنِّي أَعُوْذ بِالْرَّحْمَن مِنْك إِن كُنْت تَقِيا) أَرَادَت أَن تَحْتَمِي فِي الْلَّه.. وَسَأَلْتُه هَل هُو إِنْسَان طَيِّب يُعْرَف الْلَّه وَيَتَّقِيْه.

فَجَاء جَوَابِه لِيَطْمْئِنْهَا بِأَنَّه يَخَاف الْلَّه وَيَتَّقِيْه: (قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُوْل رَبِّك لِأَهَب لَك غُلَاما زَكِيا)
اطْمَئِنت مَرْيَم لِلْغَرِيْب، لَكِن سِرْعَان مَا تَذَكَّرْت مَا قَالَه (لِأَهَب لَك غُلَاما زَكِيا) اسْتَغْرَبْت مَرْيَم الْعَذْرَاء مِن ذَلِك.. فَلَم يَّمْسَسْهَا بَشِّر مِن قَبْل.. وَلَم تَتَزَوَّج، وَلَم يَخْطُبُهَا أَحَد، كَيْف تُنْجِب بِغَيْر زَوَاج!!

فَقَالَت لِرَسُوْل رَبِّهَا: (أَنَّى يَكُوْن لِي غُلَام وَلَم يَمْسَسْنِي بَشَر وَلَم أَك بَغِيا)
قَال الْرُّوْح الْأَمِيْن: (كَذَلك قَال رَبُّك هُو عَلَي هَيِّن وَلِنَجْعَلَه آَيَة لِلْنَّاس وَرَحْمَة مِّنَّا وَكَان أَمْرا مَّقْضِيا) اسْتَقْبَل عَقَل مَرْيَم كَلِمَات الْرُّوْح الْأَمِيْن.. أَلَم يَقُل لَهَا إِن هَذَا هُو أَمْر الْلَّه ..؟

وَكُل شَيْء يَنْفَذ إِذَا أَمَّر الْلَّه.. ثُم أَي غَرَابَة فِي أَن تَلِد بِغَيْر أَن يَّمْسَسْهَا بَشِّر..؟ لَقَد خُلِق الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى آَدَم مِن غَيْر أَب أَو أُم، لَم يَكُن هُنَاك ذِكْر وَأُنْثَى قَبْل خَلْق آَدَم.

وَخَلَقْت حَوَّاء مِن آَدَم فَهِي قَد خُلِقَت مِن ذَكَر بِغَيْر أُنْثَى.. وَيَخْلُق ابْنَهَا مِن غَيْر أَب.. يَخْلُق مِن أُنْثَى بِغَيْر ذِكْر.. وَالْعَادَة أَن يَخْلُق الْإِنْسَان مِن ذِكْر وَأُنْثَى.. الْعَادَة أَن يَكُوْن لَه أَب وَأُم.. لَكِن الْمُعْجِزَة تَقَع عِنَدَمّا يُرِيْد الْلَّه تَعَالَى أَن تَقَع..

عَاد جِبْرِيْل عَلَيْه الْسَّلام يَتَحْدُث: (إِن الْلَّه يُبَشِّرُك بِكَلِمَة مِّنْه اسْمُه الْمَسِيْح عِيْسَى ابْن مَرْيَم وَجِيْها فِي الْدُّنْيَا وَالآَخِرَة وَمِن الْمُقَرَّبِيْن (45) وَيُكَلِّم الْنَّاس فِي الْمَهْد وَكَهْلا وَمِن الْصَّالِحِيْن)

زَادَت دَهْشَة مَرْيَم.. قَبْل أَن تُحَمِّلَه فِي بَطْنِهَا تَعْرِف اسْمَه.. وَتُعْرَف أَنَّه سَيَكُوْن وِجِيِهْا عِنْد الْلَّه وَعِنْد الْنَّاس، وَتُعْرَف أَنَّه سَيُكَلِّم الْنَاس وَهُو طِفْل وَهُو كَبِيْر.. وَقَبْل أَن يَتَحَرَّك فَم مَرْيَم بِسُؤَال آَخَر.. نُفِخ جِبْرِيْل عَلَيْه الْسَّلَام فِي جَيْب مَرْيَم –الْجَيْب هُو شِق الْثَّوْب الَّذِي يَكُوْن فِي الْصَّدْر- فَحَمَلَت فَوْرَا.

وَمَرّت الْأَيَّام.. كَان حَمْلُهَا يَخْتَلِف عَن حَمْل الْنِّسَاء.. لَم تَمْرَض وَلَم تَشْعُر بِثِقَل وَلَا أَحَسَّت أَن شَيْئا زَاد عَلَيْهَا وَلَا ارْتَفَع بَطْنِهَا كَعَادَة الْنِّسَاء.. كَان حَمْلُهَا بِه نِعْمَة طَيِّبَة. وَجَاء الْشَّهْر الْتَّاسِع.. وَفِي الْعُلَمَاء مِن يَقُوْل إِن الْفَاء تُفِيْد الْتَّعْقِيب الْسَّرِيْع.. بِمَعْنَى أَن مَرْيَم لَم تَحْمِل بِعِيْسَى تِسْعَة أَشْهُر، وَإِنَّمَا وَلَدَتْه مُبَاشَرَة كَّمُعْجِزَة..

خَرَجَت مَرْيَم ذَات يَوْم إِلَى مَكَان بَعِيْد.. إِنَّهَا تُحِس أَن شَيْئا سَيَقَع الْيَوْم.. لَكِنَّهَا لَا تَعْرِف حَقّيِقَة هَذَا الْشَّيْء.. قَادَتِهَا قَدَمَاهَا إِلَى مَكَان يَمْتَلِئ بِالْشَّجَر.. وَالْنَّخْل، مَكَان لَا يَقْصِدُه أَحَد لِبُعْدِه.. مَكَان لَا يَعْرِفُه غَيْرَهَا.. لَم يَكُن الْنَّاس يَعْرِفُوْن أَن مَرْيَم حَامِل.. وَإِنَّهَا سَتَلِد.. كَان الْمِحْرَاب مُغْلَقَا عَلَيْهَا، وَالْنَّاس يَعْرِفُوْن أَنَّهَا تَتَعَبَّد فَلَا يَقْتَرِب مِنْهَا أَحَد..

جَلَسَت مَرْيَم تَسْتَرِيْح تَحْت جِذِع نَخْلَة؛ لَم تَكُن نَخْلَة كَامِلَة، إِنَّمَا جِذْع فَقَط، لِتَظْهَر مُعْجِزَات الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى لِمَرْيَم عِنْد وِلَادَة عِيْسَى فَيُطَمْئِن قَلْبِهَا.. وَرَاحَت تُفَكِّر فِي نَفْسِهَا.. كَانَت تَشْعُر بِأَلَم.. وَرَاح الْأَلَم يَتَزَايَد وَيَجِيْء فِي مَرَاحِل مُتَقَارِبَة.. وَبَدَأَت مَرْيَم تَلِد..

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاض إِلَى جِذْع الْنَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَنِي مِت قَبْل هَذَا وَكُنْت نَسْيا مَّنْسِيا (23) (مَرْيَم)
إِن أَلَم الْمِيْلَاد يَحْمِل لِنَفْس الْعَذْرَاء الْطَّاهِرَة آَلِامَا أُخْرَى تِتْوَقَّعْهَا وَلَم تَقَع بَعْد..

كَيْف يَسْتَقْبِل الْنَّاس طِفْلَهَا هَذَا..؟ وَمَاذَا يَقُوْلُوْن عَنْهَا..؟ إِنَّهُم يَعْرِفُوْن أَنَّهَا عَذْرَاء.. فَكَيْف تَلِد الْعَذْرَاء..؟ هَل يَصْدُق الْنَّاس أَنَّهَا وَلَدَتْه بِغَيْر أَن يَّمْسَسْهَا بَشِّر..؟

وَتَصَوَّرْت نَظَرَات الْشَّك.. وَكَلِمَات الْفُضُول.. وَتَعْلِيْقَات الْنَّاس.. وَامْتَلَأ قَلْبِهَا بِالْحُزْن..
وَوَلَدَت فِي نَفْس الْلَّحْظَة مِن قَدَر عَلَيْه أَن يَحْمِل فِي قَلْبِه أَحْزَان الْبَشَرِيَّة.. لَم تَكَد مَرْيَم تَنْتَهِي مِن تَّمَنِّيْهَا الْمَوْت وَالْنِّسْيَان، حَتَّى نَادِهِا الْطِفْل الَّذِي وُلِد:

فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَد جَعَل رَبُّك تَحْتَك سَرِيا (24) وَهُزِّي إِلَيْك بِجِذْع الْنَّخْلَة تُسَاقِط عَلَيْك رُطَبا جَنِيا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا فَإِمَّا تَرَيِن مِن الْبَشَر أَحَدا فَقُوْلِي إِنِّي نَذَرْت لِلْرَّحْمَن صَوْما فَلَن أُكَلِّم الْيَوْم إِنْسِيا (26) (مَرْيَم)

نَظَرَت مَرْيَم إِلَى الْمَسِيْح.. سَمِعْتُه يَطْلُب مِنْهَا أَن تَكُف عَن حُزْنِهَا.. وَيَطْلُب مِنْهَا أَن تَهُز جِذْع الْنَّخْلَة لِتُسْقِط عَلَيْهَا بَعْض ثِمَارَهَا الْشَّهِيَّة.. فَلْتَأْكُل، وَلْتَشْرَب، وَلْتَمْتَلِئ بِالْسَّلام وَالْفَرَح وَلَا تُفَكِّر فِي شَيْء.. فَإِذَا رَأَت مِن الْبَشَر أَحَدا فَلْتَقُل لَهُم أَنَّهَا نَذَرْت لِلْرَّحْمَن صَوْما فَلَن تَكَلَّم الْيَوْم إِنْسَانَا.. وَلْتَدَع لَه الْبَاقِي..

لَم تَكَد تُلْمَس جِذْعُهَا حَتَّى تُسَاقِط عَلَيْهَا رُطَب شَهِي.. فَأَكَلْت وَشَرِبْت وَلَفَّت الْطِّفْل فِي مَلَابِسِهَا.. كَان تَفْكِيْر مَرْيَم الْعَذْرَاء كُلُّه يَدُوْر حَوْل مَرْكَز وَاحِد.. هُو عِيْسَى، وَهِي تَتَسَاءَل بَيَّنَهَا وَبَيْن نَفْسِهَا: كَيْف يَسْتَقْبِلُه الْيَهُوْد..؟

مَاذَا يَقُوْلُوْن فِيْه..؟ هَل يَصْدُق أَحَد مِن كَهَنَة الْيَهُوْد الَّذِيْن يَعِيْشُوْن عَلَى الْغِش وَالْخَدِيْعَة وَالْسَّرِقَة..؟ هَل يَصْدُق أَحَدَهُم وَهُو بَعِيْد عَن الْلَّه أَن الْلَّه هُو الَّذِي رَزَقَهَا هَذَا الْطِّفْل؟ إِن مَوْعِد خَلْوَتِهَا يَنْتَهِي، وَلَا بُد أَن تَعُوْد إِلَى قَوْمِهَا.. فَمَاذَا يَقُوْلُوْن الْنَّاس؟

مُوَاجَهَة الْقَوْم:

كَان الْوَقْت عَصْرَا حِيْن عَادَت مِرْيَم.. وَكَان الْسُّوْق الْكَبِيْر الَّذِي يَقَع فِي طَرِيْقِهَا إِلَى الْمَسْجِد يَمْتَلِئ بِالْنَّاس الَّذِي فَرَّغُوا مِن الْبَيْع وَالْشِّرَاء وَجَلَسُوا يُثَرْثِرُون. لَم تَكَد مَرْيَم تَتَوَسَّط الْسُّوْق حَتَّى لَاحَظ الْنَّاس أَنَّهَا تُحْمَل طِفْلَا، وَتَضُمُّه لِصَدَرِهَا وَتَمْشِي بِه فِي جَلَال وَبُطْئ..

تُسَائِل أَحَد الْفُضُولِيِّين: أَلَيْسَت هَذِه مَرْيَم الْعَذْرَاء..؟ طِفْل مِن هَذَا الَّذِي تَحْمِلُه عَلَى صَدْرِهَا..؟ قَال أَحَدُهُم: هُو طِفْلَهَا.. تَرَى أَي قِصَّة سَتَخْرُج بِهَا عَلَيْنَا..؟ وَجَاء كَهَنَة الْيَهُوْد يَسْأَلُوْنَهَا.. ابْن مَن هَذَا يَا مَرْيَم؟ لِمَاذَا لَا تُرْدِيْن؟ هُو ابْنُك قِطْعَا.. كَيْف جَاءَك وُلِد وَأَنْت عَذْرَاء؟
يَا أُخْت هَارُوْن مَا كَان أَبُوْك امْرَأ سَوْء وَمَا كَانَت أُمُّك بَغِيا (28) (مَرْيَم)

الْكَلِمَة تَرْمِي مَرْيَم بِالْبِغَاء.. هَكَذَا مُبَاشَرَة دُوْن اسْتِمَاع أَو تَحْقِيْق أَو تُثَبِت.. تِّرْمِيَهَا بِالْبِغَاء وَتُعِيْرَهَا بِأَنَّهَا مِن بَيْت طَيِّب وَلَيْسَت أُمِّهَا بَغْيا.. فَكَيْف صَارَت هِي كَذَلِك؟ رَاحَت الْاتِّهَامَات تَسْقُط عَلَيْهَا وَهِي مَّرْفُوْعَة الْرَّأْس.. تُوْمِض عَيْنَاهَا بِالْكِبْرِيَاء وَالْأُمُومَة.. وَيُشِع مِن وَجْهِهَا نُوْر يَفِيْض بِالثِّقَة.. فَلَمَّا زَادَت الْأَسْئِلَة، وَضَاق الْحَال، وَانْحَصَر الْمَجَال، وَامْتَنَع الْمَقَال، اشْتَد تَوَكُّلِهَا عَلَى ذِي الْجَلَال وَأَشَارَت إِلَيْه..

أَشَارَت بِيَدِهَا لِعِيْسَى.. وَانْدَهَش الْنَّاس.. فَهِمُوْا أَنَّهَا صَائِمَة عَن الْكَلَام وَتَرْجُو مِنْهُم أَن يَسْأَلُوْه هُو كَيْف جَاء.. تَسَاءَل الْكَهَنَة وَرُؤَسَاء الْيَهُوْد كَيْف يُوَجِّهُوْن الْسُّؤَال لِطِفْل وُلِد مُنْذ أَيَّام.. هَل يَتَكَلَّم طِفِل فِي لِفَافَتَه..؟!

قَالُوْا لِمَرْيَم: (كَيْف نُكَلِّم مَن كَان فِي الْمَهْد صَبِيا).
قَال عِيْسَى:
قَال إِنِّي عَبْد الْلَّه آَتَانِي الْكِتَاب وَجَعَلَنِي نَبِيا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكا أَيْن مَا كُنْت وَّأَوْصَانِي بِالصَّلَاة وَالْزَّكَاة مَا دُمْت حَيا (31) وَبْرا بِوَالِدَتِي وَلَم يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيا (32) وَالْسَّلَام عَلَي يَوْم وُلِدْت وَيَوْم أَمُوْت وَيَوْم أُبْعَث حَيا (33) (مَرْيَم)

لَم يَكَد عِيْسَى يَنْتَهِي مِن كَلَامِه حَتَّى كَانَت وُجُوْه الْكَهَنَة وَالْأَحْبَار مُمْتَقِعَة وَشَاحِبَة.. كَانُوْا يَشْهَدُوْن مُعْجِزَة تَقَع أَمَامَهُم مُبَاشَرَة.. هَذَا طِفْل يَتَكَلَّم فِي مَهْدِه.. طِفْل جَاء بِغَيْر أَب.. طِفْل يَقُوْل أَن الْلَّه قَد آَتَاه الْكِتَاب وَجَعَلَه نَبِيَّا.. هَذَا يَعْنِي إِن سَلَّطْتَهُم فِي طَرِيْقِهَا إِلَى الانْهِيَار.. سَيُصْبِح كُل وَاحِد فِيْهِم بِلَا قِيَمَة عِنْدَمَا يَكْبُر هَذَا الْطِّفْل..

لَن يَسْتَطِيْع أَن يَبِيْع الْغُفْرَان لِلْنَّاس، أَو يَحْكُمُهُم عَن طَرِيْق ادِّعَائِه أَنَّه ظَل الْسَّمَاء عَلَى الْأَرْض، أَو بِاعْتِبَارِه الْوَحِيْد الْعَارِف فِي الْشَّرِيِعَة.. شِعْر كَهَنَة الْيَهُوْد بِالْمَأسَاة الْشَخْصِيَّة الَّتِي جَاءَتْهُم بِمِيْلاد هَذَا الْطِّفْل..

إِن مُجَرَّد مَجِيْء الْمَسِيْح يَعْنِي إِعَادَة الْنَاس إِلَى عِبَادَة الْلَّه وَحْدَه.. وَهَذَا مَعْنَاه إِعْدَام الْدِّيَانَة الْيَهُوْدِيَّة الْحَالِيَّة.. فَالْفَرْق بَيْن تَعَالِيْم مُوْسَى وَتَصَرُّفَات الْيَهُوْد كَان يُشْبِه الْفَرْق بَيْن نُجُوْم الْسَّمَاء وَوَحْل الْطُّرُقَات.. وَتُكَتِّم رُهْبَان الْيَهُوْد قِصَّة مِيْلاد عِيْسَى وَكَلَامُه فِي الْمَهْد.. وَاتَّهَمُوْا مَرْيَم الْعَذْرَاء بِبُهْتَان عَظِيْم.. اتَّهَمُوْهَا بِالْبِغَاء.. رُغْم أَنَّهُم عَايَنُوَا بِأَنْفُسِهِم مُعْجِزَة كَلَام ابْنِهِا فِي الْمَهْد.

وَتُخْبِرُنَا بَعْض الرِّوَايَات أَن مَرْيَم هَاجَرَت بِعِيْسَى إِلَى مِصْر، بَيْنَمَا تُخْبِرُنَا رِوَايَات أُخْرَى بِأَن هَجَرَتْهَا كَانَت مِن بَيْت لَحْم لِبَيْت الْمَقْدِس. إِلَا أَن الْمَعْرُوْف لَدَيْنَا هُو أَن هَذِه الْهِجْرَة كَانَت قَبْل بِعْثَتِه.

مُعْجِزَاتِه:

كَبُر عِيْسَى.. وَنَزَل عَلَيْه الْوَحْي، وَأَعْطَاه الْلَّه الْإِنْجِيْل. وَكَان عُمْرُه آَنَذَاك -كَمَا يُرَى الْكَثِيْر مِن الْعُلَمَاء- ثَلَاثُوْن سَنَة. وَأَظْهَر الْلَّه عَلَى يَدَيْه الْمُعْجِزَات.

يَقُوْل الْمَوْلَى عَز وَجَل فِي كِتَابِه عَن مُعْجِزَات عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام:
وَيُعَلِّمُه الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالْتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيْل (48) وَرَسُوْلِا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيْل أَنِّي قَد جِئْتُكُم بِآَيَة مِّن رَّبِّكُم أَنِّي أَخْلُق لَكُم مِن الْطِّيْن كَهَيْئَة الْطَّيْر فَأَنْفُخ فِيْه فَيَكُوْن طَيْرا بِإِذْن الْلَّه وَأُبَرِّى الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَأُحْي الْمَوْتَى بِإِذْن الْلَّه وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُوْن وَمَا تَدَّخِرُوْن فِى بُيُوْتِكُم إِن فِي ذَلِك لَآَيَة لَّكُم إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن (49) وَمُصَدِّقا لِّمَا بَيْن يَدَي مِن الْتَّوْرَاة وَلِأُحِل لَكُم بَعْض الَّذِي حُرِّم عَلَيْكُم وَجِئْتُكُم بِآَيَة مِّن رَّبِّكُم فَاتَّقُوا الْلَّه وَأَطِيْعُوْن (50) إِن الْلَّه رَبِّي وَرَبَّكُم فَاعْبُدُوْه هـذَا صِرَاط مُّسْتَقِيْم (51) (آَل عِمْرَان)

فَكَان عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- رَسُوْلِا لِبَنِي إِسْرَائِيْل فَقَط. وَمُعْجِزَاتِه هِي:

عَلَّمَه الْلَّه الْتَّوْرَاة.

يَصْنَع مَن الْطِّيْن شَكْل الْطَّيْر ثُم يَنْفُخ فِيْه فَيُصْبِح طَيْرا حَيّا يَطِيْر أَمَام أَعْيُنِهِم.

يُعَالَج الْأَكْمَه (وَهُو مِن وُلْد أَعْمَى)، فَيَمْسَح عَلَى عَيْنَيْه أَمَامَهُم فَيُبْصِر.

يُعَالَج الْأَبْرَص (وَهُو الْمَرَض الَّذِي يُصِيْب الْجِلْد فَيُجْعَل لَوْنُه أَبْيَضَا)، فَيُمسْح عَلَى جِسْمِه فَيَعُوْد سَلِيْمَا.

يُخْبِرُهُم بِمَا يُخَبِّئُوْن فِي بُيُوْتِهِم، وَمَا أُعِدَّت لَهُم زَوْجَاتِهِم مِن طَعَام.

وَكَان –عَلَيْه الْسَّلَام- يُحْيِي الْمَوْتَى.

إِيْمَان الْحَوَارِيُّوْن:

جَاء عِيْسَى لِيُخَفِّف عَن بَنِي إِسْرَائِيْل بِإِبَاحَة بَعْض الْأُمُور الَّتِي حَرَّمَتَها الْتَّوْرَاة عَلَيْهِم عِقَابَا لَهُم. إِلَا أَن بَنِي إِسْرَائِيْل –مَع كُل هَذِه الْآَيَات- كَفَرُوَا.

قَال تَعَالَى:
فَلَمَّا أَحَس عِيْسَى مِنْهُم الْكُفْر قَال مَن أَنْصَارِي إِلَى الْلَّه قَال الْحَوَارِيُّوْن نَحْن أَنْصَار الْلَّه آَمَنَّا بِاللَّه وَاشْهَد بِأَنَّا مُسْلِمُوْن (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلَت وَاتَّبَعْنَا الْرَّسُوْل فَاكْتُبْنَا مَع الْشَّاهِدِيْن (53) (آَل عِمْرَان)

وَقَال تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آَمَنُوْا كُوْنُوْا أَنْصَار الْلَّه كَمَا قَال عِيْسَى ابْن مَرْيَم لِلْحَوَارِيِّيْن مَن أَنْصَارِي إِلَى الْلَّه قَال الْحَوَارِيُّوْن نَحْن أَنْصَار الْلَّه فَآَمَنَت طَّائِفَة مِّن بَنِي إِسْرَائِيْل وَكَفَرَت طَّائِفَة فَأَيَّدْنَا الَّذِيْن آَمَنُوْا عَلَى عَدُوِّهِم فَأَصْبَحُوْا ظَاهِرِيْن (14) (الْصَّف)

قِيَل أَن عَدَد الْحَوَارِيِّيْن كَان سَبْعَة عَشَر رَجُلا، لَكِن الرِّوَايَات الْأَرْجَح أَنَّهُم كَانُوْا اثْنَي عَشَر رَجُلا. آَمَن الْحَوَارِيُّوْن، لَكِن الْتَّرَدُّد لَا يَزَال مَوْجُوْدا فِي نُفُوْسِهِم.

قَال الْلَّه تَعَالَى قِصَّة هَذَا الْتَّرَدُّد:
إِذ قَال الْحَوَارِيُّوْن يَا عِيْسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيْع رَبُّك أَن يُنَزِّل عَلَيْنَا مَآَئِدَة مِّن الْسَّمَاء قَال اتَّقُوْا الْلَّه إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن (112) قَالُوَا نُرِيْد أَن نَّأْكُل مِنْهَا وَتَطْمَئِن قُلُوْبُنَا وَنَعْلَم أَن قَد صَدَقْتَنَا وَنَكُوْن عَلَيْهَا مِن الْشَّاهِدِيْن (113) قَال عِيْسَى ابْن مَرْيَم الْلَّهُم رَبَّنَا أَنْزِل عَلَيْنَا مَآَئِدَة مِّن الْسَّمَاء تَكُوْن لَنَا عِيْدَا لِّأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَة مِّنْك وَارْزُقْنَا وَأَنْت خَيْر الْرَّازِقِيْن (114) قَال الْلَّه إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُم فَمَن يَكْفُر بَعْد مِنْكُم فَإِنِّي أُعَذِّبُه عَذَابا لَا أُعَذِّبُه أَحَدا مِّن الْعَالَمِيْن (115) (الْمَائِدَة)

اسْتَجَاب الْلَّه عَز وَجَل، لَكِنَّه حَذَّرَهُم مِن الْكُفْر بَعْد هَذِه الْآَيَة الَّتِي جَاءَت تَلْبِيَة لُطَلْبِهُم. نَزَلَت الْمَائِدَة، وَأَكْل الْحَوَارِيُّوْن مِنْهَا، وَظَلُّوا عَلَى إِيْمَانِهِم وَتَصْدِيقَهُم لِعِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- إِلَّا رَجُل وَاحِد كَفَر بَعْد رَفْع عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام.

رَفَع عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام:

لَمَّا بَدَأ الْنَّاس يَتَحَدَّثُوْن عَن مُعْجِزَات عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام، خَاف رُهْبَان الْيَهُوْد أَن يُتَّبَع الْنَّاس الْدِّيْن الْجَدِيْد فَيُضَيِّع سُلْطَانُهُم. فَذَهَبُوا لْمَلِك تِلْك الْمَنَاطِق وَكَان تَابِعا لِلْرُّوَم. وَقَالُوْا لَه أَن عِيْسَى يَزْعُم أَنَّه مَلِك الْيَهُوْد، وَسَيَأْخُذ الْمُلْك مِنْك.

فَخَاف الْمَلِك وَأَمَر بِالْبَحْث عَن عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- لِيَقْتُلَه.
جَاءَت رِوَايَات كَثِيْرَة جِدا عَن رَفَع عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- إِلَى الْسَّمَاء، مُعْظَمُهَا مِن الْإِسْرَائِيْلِيَّات أَو نَقْلِا عَن الْإِنْجِيْل. وَسَنُشِير إِلَى أَرْجَح رِوَايَة هُنَا.

عِنَدَمّا بَلَغ عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام أَنَّهُم يُرِيْدُوْن قَتْلِه، خَرَج عَلَى أَصْحَابِه وَسَأَلَهُم مِن مِنْهُم مُسْتَعْد أَن يُلْقِي الْلَّه عَلَيْه شَبَهُه فَيُصْلَب بَدَلَا مِنْه وَيَكُوْن مَعَه فِي الْجَنَّة. فَقَام شَاب، فَحَن عَلَيْه عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام لِأَنَّه لَا يَزَال شَابّا. فَسَأَلَهُم مَرَّة ثَانِيَة، فَقَام نَفْس الْشَّاب.

فَنَزَل عَلَيْه شَبَه عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام، وَرَفْع الْلَّه عِيْسَى أَمَام أَعْيُن الْحَوَارِيِّيْن إِلَى الْسَّمَاء. وَجَاء الْيَهُوْد وَأَخَذُوا الشُّبَه وَقَتَلُوْه ثُم صَلَبُوْه. ثُم أَمْسَك الْيَهُوْد الْحَوَارِيِّيْن فَكَفَر وَاحِد مِنْهُم.

ثُم أَطْلَقُوْهُم خَشْيَة أَن يَغْضَب الْنَّاس. فَظَل الْحَوَارِيُّوْن يَدْعُوَن بِالْسِّر. وَظِل الْنَّصَارَى عَلَى الْتَّوْحِيْد أَكْثَر مِن مِئَتَيْن سُنَّة. ثُم آَمَن أَحَد مُلُوْك الْرُّوْم وَاسْمُه قُسْطَنْطِيْن، وَأُدْخِل الْشِّرْكِيَّات فِي دِيَن الْنَّصَارَى.

يَقُوْل ابْن عَبَّاس: افْتَرَق الْنَّصَارَى ثَلَاث فَرْق. فَقَالَت طَائِفَة: كَان الْلَّه فِيْنَا مَا شَاء ثُم صَعِد إِلَى الْسَّمَاء. وَقَالَت طَائِفَة: كَان فِيْنَا ابْن الْلَّه مَا شَاء ثُم رَفَعَه الْلَّه إِلَيْه. وَقُلْت طَائِفَة: كَان فِيْنَا عَبْد الْلَّه وَرَسُوْلِه مَا شَاء ثُم رَفَعَه الْلَّه إِلَيْه.

فَتَظَاهَرْت الْكَافِرَتَان عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوْهَا فَلَم يَزَل الْإِسْلَام طَامِسا حَتَّى بَعَث الْلَّه مُحَمَّدا –صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- فَذَلِك قَوْل الْلَّه تَعَالَى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِيْن آَمَنُوْا عَلَى عَدُوِّهِم فَأَصْبَحُوْا ظَاهِرِيْن).

وَقَال تَعَالَى عَن رَفْعِه:
وَقَوْلِهِم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيْح عِيْسَى ابْن مَرْيَم رَسُوْل الْلَّه وَمَا قَتَلُوْه وَمَا صَلَبُوْه وَلـكِن شُبِّه لَهُم وَإِن الَّذِيْن اخْتَلَفُوَا فِيْه لَفِي شَك مِّنْه مَا لَهُم بِه مِن عِلْم إِلَا اتِّبَاع الْظَّن وَمَا قَتَلُوْه يَقِيْنْا (157) بَل رَفَعَه الْلَّه إِلَيْه وَكَان الْلَّه عَزِيْزَا حَكِيْمَا (158) وَإِن مِن أَهْل الْكِتَاب إِلَا لَيُؤْمِنَن بِه قَبْل مَوْتِه وَيَوْم الْقِيَامَة يَكُوْن عَلَيْهِم شَهِيْدا (159) (الْنِّسَاء)

لَا يَزَال عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- حَيّا. وَيَدُل عَلَى ذَلِك أَحَادِيْث صَحِيْحَة كَثِيْرَة. وَالْحَدِيْث الْجَامِع لَهَا فِي مُسْنَد الْإِمَام أَحْمَد:

حَدَّثَنَا عَبْد الْلَّه، حَدَّثَنِي أَبِي،حَد ثَنَا يَحْيَى، عَن ابْن أَبِي عَرُوْبَة قَال: ثَنَا قَتَادَة، عَن عَبْد الْرَّحْمَن بْن آَدَم، عَن أَبِي هُرَيْرَة،: (عَن الْنَّبِي صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: الْأَنْبِيَاء إِخْوَة لِعَلَّات، دِيْنُهُم وَاحِد وَأُمَّهَاتُهُم شَتَّى، وَأَنَا أَوْلَى الْنَّاس بِعِيْسَى ابْن مَرْيَم لِأَنَّه لَم يَكُن بَيْنِي وَبَيْنَه نَبِي، وَأَنَّه نَازِل فَإِذَا رَأَيْتُمُوْه فَاعْرِفُوْه، فَإِنَّه رَجُل مَرْبُوع إِلَى الْحُمْرَة وَالْبَيَاض، سِبْط كَأَن رَأْسَه يَقْطُر وَإِن لَم يُصِبْه بَلَل بَيْن مُمَصَّرَتَيْن، فَيَكْسِر الْصَّلِيب وَيَقْتُل الْخِنْزِيْر، وَيَضَع الْجِزْيَة، و يُعَطِّل الْمَلَل حَتَّى يُهْلِك الْلَّه فِي زَمَانِه الْمِلَل كُلَّهَا غَيْر الْإِسْلَام، وَيُهْلِك الْلَّه فِي زَمَانِه الْمَسِيْح الدَّجَّال الْكَذَّاب، وَتَقَع الْأَمَنَة فِي الْأَرْض حَتَّى تَرْتَع الْإِبِل مَع الْأُسْد جَمِيْعَا، وَالْنُّمُوْر مَع الْبَقَر، وَالْذِّئَاب مَع الْغَنَم، وَيَلْعَب الْصِّبْيَان بِالْحَيَّات لَا يَضُر بَعْضُهُم بَعْضَا، فَيَمْكُث مَا شَاء الْلَّه أَن يَمْكُث ثُم يُتَوَفَّى، فَيُصْلِي عَلَيْه الْمُسْلِمُوْن وَيَدْفِنُوْنَه.)

(مَرْبُوع) لَيْس بِالْطَّوِيْل وَلَيْس بِالْقَصِيْر، (إِلَى الْحُمْرَة وَالْبَيَاض) وَجْهَه أَبْيَض فِيْه احْمِرَار، (سِبْط) شَعْرُه نَاعِم، (مُمَصَّرَتَيْن) عَصَاتَين أَو مَنَّارَّتَين وَفِي الْحَدِيْث الْآَخَر يُنَزِّل عِنْد الْمَنَارَة الْبَيْضَاء مِن مَسْجِد دِمَشْق.

وَفِي الْحَدِيْث الْصَّحِيْح الْآَخَر يُحَدَّد لَنَا رَسُوْلُنَا الْكَرِيم مُدَّة مَكَوْثِه فِي الْأَرْض فَيَقُوْل: (فَيَمْكُث أَرْبَعِيْن سَنَة ثُم يُتَوَفَّى، و يُصَلِّي عَلَيْه الْمُسْلِمُوْن).
لَا بُد أَن يَذُوْق الْإِنْسَان الْمَوْت. عِيْسَى لَم يَمُت وَإِنَّمَا رَفَع إِلَى الْسَّمَاء، لِذَلِك سَيَذُوق الْمَوْت فِي نِهَايَة الْزَّمَان.

وَيُخْبِرُنَا الْمَوْلَى عَز وَجَل بِحِوَار لَم يَقَع بَعْد، هُو حُوّارَه مَع عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُوْل:
وَإِذ قَال الْلَّه يَا عِيْسَى ابْن مَرْيَم أَءَنْت قُلْت لِلْنَّاس اتَّخِذُوْنِي وَأُمِّي إِلـهَيْن مِن دُوْن الْلَّه قَال سُبْحَانَك مَا يَكُوْن لِي أَن أَقُوْل مَا لَيْس لِي بِحَق إِن كُنْت قُلْتُه فَقَد عَلِمْتَه تَعْلَم مَا فِى نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِى نَفْسِك إِنَّك أَنْت عَلَام الْغُيُوْب (116) مَا قُلْت لَهُم إِلَا مَا أَمَرْتَنِي بِه أَن اعْبُدُوْا الْلَّه رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنْت عَلَيْهِم شَهِيْدا مَا دُمْت فِيْهِم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْت أَنْت الْرَّقِيْب عَلَيْهِم وَأَنْت عَلَى كُل شَىْء شَهِيْد (117) إِن تُعَذِّبْهُم فَإِنَّهُم عِبَادُك وَإِن تَغْفِر لَهُم فَإِنَّك أَنْت الْعَزِيْز الْحَكِيْم (118) (الْمَائِدَة)

هَذَا هُو عِيْسَى بِن مَرْيَم عَلَيْه الْسَّلَام،
آَخَر الْرُّسُل قَبْل سَيِّدِنَا مُحَمَّد صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم.

يتبع انشاء الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:40 pm

عُزَيْر عَلَيْه الْسَّلَام

نُبْذَة:

مِن أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيْل، أَمَاتَه الْلَّه مِئَة عَام ثُم بَعَثَه، جُدَد الْدِّيْن لِبَنِي إِسْرَائِيْل وَعَلِّمْهُم الْتَّوْرَاة بَعْد أَن نَسُوهَا.

سِيْرَتِه:

مَرَّت الْأَيَّام عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْل فِي فِلِسْطِيْن، وَانْحَرَفُوْا كَثِيْر عَن مَنْهَج الْلَّه عَز وَجَل. فَأَرَاد الْلَّه أَن يُجَدِّد دِيْنَهُم، بَعْد أَن فُقِدُوا الْتَّوْرَاة وَنَسُوا كَثِيْرا مِن آَيَاتِهَا، فَبَعَث الْلَّه تَعَالَى إِلَيْهِم عُزَيْرا.

أَمَر الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى عُزَيْرا أَن يَذْهَب إِلَى قَرْيَة. فَذَهَب إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا خَرَابِا، لَيْس فِيْهَا بَشَر. فَوَقَف مُتَعَجِّبَا، كَيْف يُرْسِلُه الْلَّه إِلَى قَرْيَة خَاوِيَة لَيْس فِيْهَا بَشَر. وَقَف مُسْتَغْرَبا، يَنْتَظِر أَن يُحْيِيَهَا الْلَّه وَهُو وَاقِف! لِأَنَّه مَبْعُوث إِلَيْهَا. فَأَمَاتَه الْلَّه مِئَة عَام. قَبَض الْلَّه رُوْحَه وَهُو نَائِم، ثُم بَعَثَه. فَاسْتَيْقَظ عُزَيْر مِن نَوْمِه.

فَأَرْسَل الْلَّه لَه مَلَكَا فِي صُوْرَة بِشَر: (قَال كَم لَبِثْت).
فَأَجَاب عُزَيْر: (قَال لَبِثْت يَوْما أَو بَعْض يَوْم). نَمَت يَوْما أَو عِدَّة أَيَّام عَلَى أَكْثَر تَقْدِيْر.
فَرَد الْمَلِك: (قَال بَل لَّبِثْت مِئَة عَام).

وَيُعَقِّب الْمَلِك مُشِيْرّا إِلَى إِعْجَاز الْلَّه عَز وَجَل (فَانْظُر إِلَى طَعَامِك وَشَرَابِك لَم يَتَسَنَّه وَانْظُر إِلَى حِمَارِك) أَمَرَه بِأَن يَنْظُر لِطَعَامِه الَّذِي ظَل بِجَانِبِه مِئَة سَنَة، فَرَآَه سَلِيْمَا كَمَا تَرْكُه، لَم يُنْتِن وَلَم يَتَغَيَّر طَعْمُه او رِيْحَه.

ثُم أَشَار لَه إِلَى حِمَارِه، فَرَآَه قَد مَات وَتَحَوُّل إِلَى جِلْد وَعَظُم. ثُم بَيَّن لَه الْمُلْك الْسِّر فِي ذَلِك (وَلِنَجْعَلَك آَيَة لِّلْنَّاس). وَيُخْتَتَم كَلَامِه بِأَمْر عَجِيْب (وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيْف نُنْشِزُهَا ثُم نَكْسُوْهَا لَحْما) نَظَر عُزَيْر لِلْحِمَار فَرَأَى عِظَامَه تَتَحَرَّك فَتَتَجَمَّع فتَتُشَكل بِشَكْل الْحِمَار، ثُم بَدَأ الْلَّحْم يَكْسُوْهَا، ثُم الْجَلَد ثُم الْشِعَر، فَاكْتَمَل الْحِمَار أَمَام عَيْنَيْه.

يُخْبِرُنَا الْمَوْلَى بِمَا قَالَه عُزَيْر فِي هَذَا الْمَوْقِف: (فَلَمَّا تَبَيَّن لَه قَال أَعْلَم أَن الْلَّه عَلَى كُل شَيْء قَدِيْر). سُبْحَان الْلَّه أَي إِعْجَاز هَذَا.. ثُم خَرَج إِلَى الْقَرْيَة، فَرَآَهَا قَد عُمِّرْت وَامْتَلَأَت بِالْنَّاس. فَسَأَلَهُم: هَل تَعْرِفُوْن عُزَيْرا؟ قَالُوْا: نَعَم نَعْرِفُه، وَقَد مَات مُنْذ مِئَة سَنَة. فَقَال لَهُم: أَنَا عُزَيْر.

فَأَنْكَرُوْا عَلَيْه ذَلِك. ثُم جَاءُوَا بِعَجُوز مُعَمَّرة، وَسْأَلُوْهَا عَن أَوْصَافِه، فَوَصَفَتْه لَهُم، فَتأَكَّدُوا أَنَّه عُزَيْر. فَأَخَذ يُعَلِّمُهُم الْتَّوْرَاة وَيُجَدِّدُهَا لَهُم، فَبَدَأ الْنَّاس يُقَبِّلُوْن عَلَيْه وَعَلَى هَذَا الْدِّيْن مِن جَدِيْد، وَأَحَبُّوه حَبَّا شَدِيْدا وَقَدَّسُوه لِلْإِعْجَاز الَّذِي ظَهَر فِيْه، حَتَّى وَصَل تَقْدِيسُهُم لَه أَن قَالُوْا عَنْه أَنَّه ابْن الْلَّه (وَقَالَت الْيَهُوْد عُزَيْر ابْن الْلَّه).

وَاسْتَمَر انْحِرَاف الْيَهُوْد بِتَقْدِيْس عُزَيْر وَاعْتِبَارُه ابْنَا لِلَّه تَعَالَى - وَلَا زَالُوا يَعْتَقِدُوْن بِهَذَا إِلَى الْيَوْم- وَهَذَا مِن شِرْكِهِم لَعَنَهُم الْلَّه.

وَقَال إِسْحَاق بْن بِشْر: أَن عَزِيْزَا كَان عَبْدِا صَالِحَا حَكِيْما، خَرَج ذَات يَوْم إِلَي ضَيْعَة لَه يَتَعَاهَدَهَا، فَلَمَّا انْصَرَف أَتَى إِلَي خَرِبَة حِيْن قَامَت الْظَّهِيْرَة وَأَصَابَه الْحُر، وَدَخَل الْخَرِبَة وَهُو عَلَى حِمَارِه فَنَزَل عَن حِمَارِه، وَمَعَه سَلَّة فِيْهَا تِيْن وَسَلَّة فِيْهَا عِنَب، فَنَزَل فِي ظِل تِلْك الْخَرِبَة وَأَخْرَج خُبْزَا يَابِسَا مَعَه، فَأَلْقَاه فِي تِلْك الْقَصْعَة فِي الْعَصِير لَيُبْتَلَى لِيَأْكُلَه، ثُم اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاه وَأُسْنِد رِجْلَيْه إِلَي الْحَائِط، فَنَظَر إِلَي سَقْف تِلْك الْبُيُوت، وَرَأَى مَا فِيْهَا وَهِي قَائِمَة عَلَى عُرُوْشِهَا، وَقَد بَاد أَهْلِهَا وَرَأَى عِظَامَا بَالِيَة فَقَال: (أَنَّى يُحْيِى هَذِه الْلَّه بَعْد مَوْتِهَا) فَلَم يَشُك أَن الْلَّه يُحْيِيَهَا، وَلَكِن قَالَهَا تَعَجَّبَا، فَبَعَث الْلَّه مَلْك الْمَوْت فَقَبَض رُوْحَه، فَأَمَاتَه الْلَّه مِائَة عَام.

فَلَمَّا أَتَت عَلَيْه مِائَة عَام، وَكَانَت فِيْمَا بَيْن ذَلِك فِي بَنِي إِسْرَائِيْل أُمُوْر وَأَحْدَاث، قَال: فَبَعَث الْلَّه إِلَي عَزِيْز مُلْكَا فَخَلَق قَلْبِه وَعَيْنَيْه لِيَنْظُر بِهِمَا فَيُعْقَل كَيْف يُحْيِي الْلَّه الْمَوْتَى، ثُم رَكِب خَلْقِه وَهُو يَنْظُر، ثُم كَسَا عِظَامَه الْلَّحْم وَالْشِّعْر وَالْجِلْد ثُم نُفِخ فِيْه الْرُّوْح، كُل ذَلِك وَهُو يَرَى وَيَعْقِل، فَاسْتَوَى جَالِسَا، فَقَال لَه الْمَلِك: كَم لَبِثْت؟ قَال: لَبِثْت يَوْمَا، وَذَلِك أَنَّه كَان لَبِث صَدْر الْنَّهَار عِنْد الْظَّهِيْرَة وَبَعَث فِي آَخِر الْنَّهَار وَالْشَّمْس لَم تَغِب، فَقَال: أَو بَعْض يَوْم وَلَم يَتِم لِي يَوْم، فَقَال لَه الْمَلِك: بَل لَبِثْت مِائَة عَام، فَانْظَر إِلَي طَعَامِك وَشَرَابِك، يَعْنِي الْطَّعَام الْخُبْز الْيَابِس، وَشَرَابَه الْعَصِير الَّذِي كَان اعْتَصَرَه فِي الْقَصْعَة، فَإِذَا هُمَا عَلَى حَالِهِمَا لَم يَتَغَيَّر الْعَصِير وَالْخُبْز الْيَابِس، فَذَلِك قَوْلُه: (لَم يَستَنّه) يَعْنِي: لَم يَتَغَيَّر.

وَكَذَلِك الْتِّيْن وَالْعِنَب غَض لَم يَتَغَيَّر شَيْء مِن حَالِهِمَا، فَكَأَنَّه أَنْكَر فِي قَلْبِه، فَقَال لَه الْمَلِك: أَنْكَرْت مَا قُلْت لَك؟ انْظُر إِلَي حِمَارِك فَنَظَر إِلَي حِمَارَه قَد بَلِيْت عِظَامَه وَصَارَت نَخِرَة، فَنَادَى الْمَلِك عِظَام الْحِمَار، فَأَجَابَت وَأَقْبَلَت مِن كُل نَاحِيَة حَتَّى رَكِبَه وَعَزِيز يَنْظُر إِلَيْه، ثُم أَلْبَسَهَا الْعُرُوْق وَالْعَصَب، ثُم كَسَاهَا الْلَّحْم ثُم أُنْبِت عَلَيْهَا الْجِلْد وَالْشَّعْر، ثُم نُفِخ فِيْه الْمَلِك فَقَام الْحِمَار، رَافَعَا رَأْسِه وَأُذُنَيْه إِلَي الْسَّمَاء نَاهِقَا يَظُن الْقِيَامَة قَد قَامَت، فَذَلِك قَوْلُه: (وَانْظُر إِلَي حِمَارِك وَلِنَجْعَلَك آَيَة لِّلْنَّاس وَانْظُر إِلَي الْعِظَام كَيْف نُنْشِزُهَا ثُم نَكْسُوْهَا لَحْمَا).

يَعْنِي: وَانْظُر إِلَي عِظَام حِمَارِك كَيْف يَرْكَب بَعْضُهَا بَعْضَا فِي أَوْصَالِهَا، حَتَّى إِذَا صَارَت عِظَامَا مُصَوَّرا حِمَارَا بِلَا لَحْم، ثُم انْظُر كَيْف نَكْسُوْهَا لَحْمَا: (فَلَمَّا تَبَيَّن لَه قَال أَعْلَم أَن الْلَّه عَلَى كُل شَيْء قَدِيْر) مِن إِحْيَاء الْمَوْتَى وَغَيْرِه.

قَال: فَرَكِب حِمَارَه حَتَّى أَتَى مَحَلَّتَه فَأَنْكَرَه الْنَّاس وَأَنْكَر الْنَّاس وَأَنْكَر مَنْزِلِه، فَانْطَلَق إِلَي وَهُم مِنْه حَتَّى أَتَى مَنْزِلَه، فَإِذَا هُو بِعَجُوز عَمْيَاء مُقْعَدَة قَد أَتَى عَلَيْهَا مِائَة وَعِشْرُوْن سَنَة كَانَت أَمَة لَهُم، فَخَرَج عَنْهُم عُزَيْر وَهِي بِنْت عِشْرِيْن سَنَة كَانَت عَرَفْتُه وَعَقَلْتُه، فَلَمَّا أَصَابَهَا الْكِبَر أَصَابَهَا الْزَّمَانَة، فَقَال لَهَا عُزَيْر: يَا هَذِه أَهَذَا مَنْزِل عُزَيْر؟ قَالَت: نَعَم هَذَا مَنْزِل عُزَيْر، فَبَكَت، وَقَالَت: مَا رَأَيْت أَحَدا مِن كَذَا وَكَذَا سَنَة يُذْكَر عُزَيْرا، وَقَد نَسِيَه الْنَّاس، قَال: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْر، كَان الْلَّه أَمَاتَنِي مِائَة سَنَة ثُم بَعَثَنِي، قَالَت: سُبْحَان الْلَّه! فَإِن عُزَيْرا قَد فَقَدْنَاه مُنْذ مِائَة سَنَة فَلَم نَسْمَع لَه بِذِكْر، قَال: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْر، قَالَت: فَإِن عُزَيْر رَجُل مُسْتَجَاب الْدَّعْوَة يَدْعُو لِلْمَرِيْض وَلِصَاحِب الْبَلَاء بِالْعَافِيَة وَالْشِّفَاء، فَادْع الْلَّه أَن يَرُد عَلَي بُصْرَي حَتَّى أَرَاك فَإِن كُنْت عُزَيْرا عَرَفْتُك.

قَال: فَدَعَا رَبَّه وَمَسَح بِيَدِه عَلَى عَيْنَيْهَا فصَحَتا وَأَخَذ بِيَدِهَا وَقَال: قَوْمِي بِإِذْن الْلَّه، فَأَطْلَق الْلَّه رِجْلَيْهَا، فَقَامَت صَحِيْحَة كَأَنَّمَا نَشِطْت مِن عِقَال، فَنَظَرْت فَقَالَت: اشْهَد أَنَّك عُزَيْر. وَانْطَلَقْت إِلَي مَحَلَّة بَنِي إِسْرَائِيْل وَهُم فِي أَنْدِيَتِهِم وَمَجَالِسِهِم، وَابْن لِعُزَيْر شَيْخ ابْن مِائَة سَنَة وَثَمَانِي عَشَر سَنَة، وَبَنِي بَنِيْه شِيُوْخ فِي الْمَجْلِس فَنَادَتْهُم، فَقَالَت: هَذَا عُزَيْر قَد جَاءَكُم. فَكَذَّبُوهَا، فَقَالَت: أَنَا فُلَانَة مَوْلاتِكُم دَعَا رَبَّه فَرَد عَلَي بَصَرِي وَأَطْلِق رِجْلَي، وَزَعَم أَن الْلَّه أَمَاتَه مِائَة سَنَة ثُم بَعَثَه..

قَال: فَنَهَض الْنَّاس فَأَقْبَلُوَا إِلَيْه فَنَظَرُوْا إِلَيْه، فَقَال ابْنُه: كَان لِأَبِي شَامَة سَوْدَاء بَيْن كَتِفَيْه، فَكَشَف عَن كَتِفَيْه فَإِذَا هُو عُزَيْر، فَقَالَت بَنَوْا إِسْرَائِيْل: فَإِنَّه لَم يَكُن فِيْنَا أَحَد حَفِظ الْتَّوْرَاة فِيْمَا حَدَّثَنَا غَيْر عُزَيْر وَقَد حَرَق بُخْتُنَصَّر الْتَّوْرَاة وَلَم يَبْق مِنْهَا شَيْء إِلَّا مَا حَفِظْت الْرِّجَال فَاكْتُبْهَا لَنَا..

وَكَان أَبُوْه سْرُوْخا قَد دُفِن الْتَّوْرَاة أَيَّام بْتَخْتَصَنر فِي مَوْضِع لَم يَعْرِفْه أَحَد غَيْر عُزَيْر، فَانْطَلَق بِهِم إِلَي ذَلِك الْمَوْضِع فَحَفَرَه فَاسْتَخْرَج الْتَّوْرَاة وَكَان قَد عَفَن الْوَرَق وَدَرَس الْكِتَاب.

قَال: وَجَلَس فِي ظِل شَجَرَة وَبَنُو إِسْرَائِيْل حَوْلَه فَجَدَّد لَهُم الْتَّوْرَاة، وَنَزَل مَن الْسَّمَاء شِهَابَان حَتَّى دَخَلَا جَوْفِه، فَتُذَكِّر الْتَّوْرَاة فَجَدَّدَهَا لِبَنِي إِسْرَائِيْل، فَمِن ثَم قَالَت الْيَهُوْد عُزَيْر ابْن الْلَّه، لِلَّذِي كَان مِن أَمْر الْشَّهَابِيْن وَتَجْدِيْدِه الْتَّوْرَاة وَقِيَامِه بِأَمْر بَنِي إِسْرَائِيْل كَان جُدَد لَهُم الْتَّوْرَاة بِأَرْض الْسَّوَاد بِدَيْر حِزْقِيْل، وَالْقَرْيَة الَّتِي مَات فِيْهَا يُقَال لَهَا سَايَر ابَاذ.

قَال ابْن عَبَّاس: فَكَان كَمَا قَال الْلَّه تَعَالَى: (وَلِنَجْعَلَك آَيَة لِّلْنَّاس) يَعْنِي: لِبَنِي إِسْرَائِيْل، وَذَلِك أَنَّه كَان يَجْلِس مَع بَنِيْه وَهُم شُيُوْخ وَهُو شَاب، لِأَنَّه مَات وَهُو ابْن أَرْبَعِيْن سَنَة، فَبَعَثَه الْلَّه شَابّا كَهَيْئَتِه يَوْم مَات. قَال ابْن عَبَّاس: بَعَث بَعْد بُخْتُنَصَّر، وَكَذَلِك قَال الْحَسَن.

وَالْمَشْهُوْر أَن عُزَيْرا نَبِي مِن أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيْل، وَأَنَّه كَان فِيْمَا بَيْن دَاوُد وَسُلَيْمَان وَبَيْن زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَأَنَّه لَمَّا لَم يَبْق فِي بَنِي إِسْرَائِيْل مَن يَحْفَظ الْتَّوْرَاة أَلْهَمَه الْلَّه حَفِظَهَا، فَسَرْدُها عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْل، كَمَا قَال وَهْب بْن مُنَبِّه: أَمْر الْلَّه مُلْكَا فَنَزَل بِمَعْرِفَة مَن نُوْر فَقَذَفَهَا فِي عُزَيْر فَنَسَخ الْتَّوْرَاة حَرَّفَا بِحَرْف حَتَّى فَرَغ مِنْهَا.

وَقَد ثَبَت فِي الْصَّحِيْح أَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: "أَنَا أَوْلَى الْنَّاس بِابْن مَرْيَم، وَالْأَنْبِيَاء أَوْلَاد عَلَات، وَلَيْس بَيْنِي وَبَيْنَه نَبِي" وَقَال وَهْب بْن مُنَبِّه: كَان فِيْمَا بَيْن سُلَيْمَان وَعِيْسَى عَلَيْهِمَا الْسَّلَام.

وَقَد رُوِي ابْن عَسَاكِر عَن أَنَس بْن مَالِك وَعَطَاء بْن الْسَّائِب أَن عُزَيْرا كَان فِي زَمَن مُوْسَى بَن عِمْرَان، وَأَنَّه اسْتَأْذَن عَلَيْه فَلَم يَأْذَن لَه، يَعْنِي لَمَّا كَان مِن سُؤَالِه عَن الْقَدَر، وَأَنَّه انْصَرَف وَهُو يَقُوْل: مِائَة مَوْتَة أَهْوَن مِن ذُل سَاعَة.

وَقَد قَال رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: "نَبِي مَن الْأَنْبِيَاء تَحْت شَجَرَة فَلَدَغَتْه نَمْلَة، فَأَمَر بِجَهَازِه فَأُخْرِج مِن تَحْتِهَا، ثُم أَمَر بِهَا فَأُحْرِقَت بِالْنَّار، فَأَوْحَى الْلَّه إِلَيْه: فَهَلْا نَمْلَة وَاحِدَة".

فَرَوَى إِسْحَاق بْن بِشْر عَن ابْن جُرَيْج، عَن عَبْد الْوَهَّاب ابْن مُجَاهِد، عَن أَبِيْه أَنَّه عُزَيْر. وَكَذَا رَوَى عَن ابْن عَبَّاس وَالْحَسَن الْبَصْرِي أَنَّه عُزَيْر.

يتبع انشاء الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:44 pm

صَالِحٍ نَبِيٍّ ثَمُوْدُ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ

بَعَثَ الْلَّهُ فِيْهِمْ رَجُلا مِنْهُمْ، وَهُوَ عَبْدُ الْلَّهِ وَرَسُوْلُهُ، صَالِحٌ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ماشُخَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاجِرٍ بْنِ ثَمُوْدَ بْنَ عَاثِرٌ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوَحِّ، فَدَعَاهُمْ إِلَيَّ عُبَادَةَ الْلَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَنْ يَخْلَعُوا الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادً وَلَا يُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئا، فَآَمَنَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَكَفِّرْ جُمْهُوْرِهِمْ، وَنَالُوْا مِنْهُ بِالْمَقَالِ وَالْفَعَّالُ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَقُتِّلُوْا الْنَّاقَةِ الَّتِيْ جَعَلَهَا الْلَّهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. فَأَخَذَهُمْ الْلَّهْ أَخْذَ عَزِيْزٍ مُقْتَدِرٍ.

وَالْمَقْصُوْدُ الْآَنَ ذِكْرِ قِصَّتَهُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَكَيْفَ نَجَّى الْلَّهُ نَبِيَّهُ صَالِحَا عَلَيْهِ الْسَّلَامُ وَمَنْ آَمَنَ بِهِ، وَكَيْفَ قِطَعُ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِيْنَ ظَلَمُوَا بِكُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، وَمُخَالَفَةِ رَسُوْلُهُمْ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوْا عُرُبَا، وَكَانُوْا بَعْدِ عَادٍ وَلَمْ يَعْتَبِرُوْا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ:
{ اعْبُدُوْا الْلَّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيْنَهُ مَنْ رَبَّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ الْلَّهِ لَكُمْ آَيَةً، فَذَرُوْهَا تَأْكُلْ فِيْ أَرْضِ الْلَّهِ، وَلَا تَمَسُّوْهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ * وَاذْكُرُوْا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِيْ الْأَرْضِ تَتَّخِذُوْنَ مِنْ سُهُوْلِهَا قُصُوْرا وَتَنْحِتُوْنَ الْجِبَالَ بُيُوْتا فَاذْكُرُوْا آَلَاءَ الّهِ وَلِّا تَعْثَوْا فِيْ الْأَرْضِ مُفْسِدِيْنَ } (سُوْرَةُ الْأَعْرَافِ:73ـ74)

أَيُّ: إِنَّمَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَعْتَبِرُوْا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَعْمَلُوَا بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ. وَأَبَاحَ لَكُمْ فِيْ هَذِهِ الْأَرْضِ تَبْنُوْنَ فِيْ سُهُوْلِهَا الْقُصُورِ، { وَتَنْحِتُوْنَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوْتَا فَارِهِيْنَ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:149)

أَيُّ: حَاذِقِيْنَ فِيْ صَنْعَتِهَا وَإِيقَانُهَا وَإِحْكَامِهَا، فَقَابَلُوَا نِعْمَةَ الْلَّهِ بِالْشُّكْرِ وَالْعَمَلُ الْصَّالِحُ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكُ لَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمُخَالَفَتِهِ وَالْعُدُولِ عَنِ طَاعَتِهِ، فَإِنَّ عَاقِبَةِ ذَلِكَ وَخَيْمَةِ.

وَلِهَذَا وَعَظَّمَهُم بِقَوْلِهِ:

{ أَتُتْرَكُوْنَ فِيْ مَا هَاهُنَا آمِنِيْنَ * فِيْ جَنَّاتٍ وَعُيُوْنٍ * وَزُرُوْعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيْمٌ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:146ـ148)
أَيُّ: مُتَرَاكِمِ كَثِيْرٍ حُسْنُ بَهِيَّ نَاضِجٌ.

{ وَتَنْحِتُوْنَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوْتَا فَارِهِيْنَ * فَاتَّقُوا الْلَّهَ وَأَطِيْعُوْنِ * وَلَا تُطِيْعُوْا أَمْرَ الْمُسْرِفِيْنَ * الَّذِيْنَ يُفْسِدُوْنَ فِيْ الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُوْنَ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:149ـ152)

وَقَالَ لَهُمْ أَيْضا:
{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الْلَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وَهُوَ أَنْشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيْهَا } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:61)

أَيُّ: هُوَ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ فَأَنشَأَكُمْ مَنْ الْأَرْضِ، وَجَعَلَكُمْ عُمَّارُهَا، أَيُّ: أَعْطَاكُمُوْهَا بِمَا فِيْهَا مِنْ الْزُّرُوْعِ وَالْثِّمَارِ، فَهُوَ الْخَلْقُ الْرَّازِقُ، فَهُوَ الَّذِيْ يَسْتَحِقّ الْعِبَادَةِ لَا مَا سِوَاهُ (فَاسْتَغْفَرُوَا ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ) أَيُّ: أَقْلَعُوْا عَمَّا أَنْتُمْ فِيْهِ وَأَقْبَلُوَا عَلَىَ عِبَادَتِهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْكُمْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ
{ إِنَّ رَبِّيَ قَرِيْبٌ مُّجِيْبٌ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:61)
{ قَالُوْا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِيْنَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَذَا } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:62)

أَيُّ: قَدْ كُنَّا نَرْجُوْ أَنْ يَكُوْنَ عَقْلِكَ كَامِلَا قَبْلَ أُنِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهِيَ دَعْوَتَكَ إِيَّانَا إِلَيَّ إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ، وَتَرَكَ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعْدُولْ عَنْ دِيَنِ الْآَبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَلِهَذَا قَالُوْا:
{ أَتَنْهَانَا أَنْ نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِيْ شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُوْنَا إِلَيْهِ مُرِيْبٍ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:62)

{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنَّ كُنْتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّنَ رَّبِّيَ وَأَتَانِيَ نَمَّهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنُصُرُنِيْ مِنَ الْلَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، فَمَا تَزِيْدُوْنَنِيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:63)

وَهَذَا تَلَطَّفْ مِنْهُ لَهُمْ فِيْ الْعِبَارَةِ، وَلَيِّنْ الْجَانِبِ، وَحُسْنُ تَأْتِ فِيْ الْدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَيَّ الْخَيْرِ، أَيُّ: فَمَا ظَنُّكُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَقُوْلُ لَكُمْ وَأَدْعُوُكُمْ إِلَيْهِ؟ مَاذَا عُذْرَكُمْ عِنْدَ الْلَّهِ؟ وَمَاذَا يُخَلِّصَكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْتُمْ تَطْلُبُوْنَ مِنِّيْ أَنْ أَتْرُكَ دَعَوْتُكُمْ إِلَيَّ طَاعَتِهِ؟

وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِيْ هَذَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَىَ وَلَوْ تَرَكْتَهُ لِمَا قُدِّرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ أَنَّ يُجِيْرَنِيْ مِنَ الْلَّهِ وَلَا يَنُصُرُنِيْ، فَأَنَا لَا أَزَالُ أَدْعُوُكُمْ إِلَيَّ الْلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، حَتَّىَ يَحْكُمَ الْلَّهُ بَيْنِيْ وَبَيْنَكُمْ.

وَقَالُوْا لَهُ أَيْضا:

{ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ: 153) أَيُّ: مِنْ الْمَسْحُوْرِيْنَ، يَعْنُوْنَ مَسْحُوْرَا لَا تَدْرِيْ مَا تَقُوْلُ فِيْ دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إِلَيَّ إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَخَلَعَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَهَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ الْجُمْهُوْرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسَحْرِينَ: الْمَسْحُوْرِيْنَ.

وَقِيْلَ: (مَنْ الْمُسَحَّرِينَ): أَيُّ مِمَّنْ لَهُ سِحْرٌ ـ وَهُوَ الْرَّئِىُّ ـ كَأَنَّهُمْ يَقُوْلُوْنَ إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ لَهُ سِحْرٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا:
{ مَا أَنْتَ إِلَا بَشَرٌ مِّثْلُنَا } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:154)
سَأَلُوْا مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِخَارِقِ يَدُلُّ عَلَىَ صِدْقِ مَا جَاءَهُمُ بِهِ.

{ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُوْمٍ * وَلَا تَمَسُّوْهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ يَوْمٍ عَظِيْمٍ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:155ـ156) وَقَالَ: { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّنَ رَّبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ الْلَّهِ لَكُمْ آَيَةً، فَذَرُوْهَا تَأْكُلْ فِيْ أَرْضِ الْلَّهِ، وَلَا تَمَسُّوْهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ أَلِيْمٍ } (سُوْرَةُ الْأَعْرَافِ:73)

وَقَالَ تَعَالَىْ:

{ وَآَتَيْنَا ثَمُوْدَ الْنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَّلَمُو?ا بِهَا } (سُوْرَةُ الْإِسْرَاءِ:59) وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُوْنَ أَنَّ ثَمُوْدَا اجْتَمَعُوْا يَوّمَا فِيْ نَادِيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَالِحٌ فَدَعَاهُمْ إِلَيَّ الْلَّهِ، وَذَكِّرْهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ وَأَمْرُهُمْ، فَقَالُوَا لَهُ: إِنْ أَنْتَ أُخْرِجَتْ لَنَا مِنَ الْصَّخْرَةِ ـ وَأَشَارُوا إِلَيَّ صَخْرَةٍ هُنَاكَ ـ نَاقَةُ، مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَذَكَرُوَا أَوْصَافا سَمَّوْهَا وَنَعْتُوْهَا وتَعَنَتُوا فِيْهَا، وَأَنْ تَكُوْنَ عُشَرَاءَ طَوِيْلَةً، مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا..

فَقَالَ لَهُمْ الْنَّبِيُّ صَالِحَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَيَّ مَا سَأَلْتُمْ عَلَىَ الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبْتُمْ، أَتُؤْمِنُوْنَ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَتُصَدِّقُوْنِي فِيْمَا أُرْسِلْتُ بِهِ؟ قَالُوْا: نَعَمْ، فَأَخَذَ عُهُوْدُهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ عَلَىَ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَامَ إِلَيَّ مُصَلَّاهُ فَصَلَّىَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُجِيْبَهُمْ إِلَيَّ مَا طَلَبُوْا، فَأَمَرَ الْلَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تِلْكَ الْصَّخْرَةِ أَنَّ تَنْفَطِرُ عَنْ نَاقَةٍ عَظِيْمَةً كَوْمَاءَ عُشَرَاءَ، عَلَىَ الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبُوْا، وَعَلَىَ الْصِّفَةِ الَّتِيْ نُعِتُوا.

فَلَمَّا عَايَنوّهَا كَذَلِكَ رَأَوْا أَمَراً عَظِيْمَا وَمَنْظَرَا هَائِلَا، وَقُدْرَةً بَاهِرَةً، وَدَلِيْلَا قَاطِعَا، وَبُرْهَانا سَاطِعَا، فَآَمَنَ كَثِيْرٌ مِّنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَىَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: (فَظَّلَمُو?ا بِهَا) أَيُّ: جَحَدُوْا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوْا الْحَقِّ بِسَبَبِهَا، أَيُّ: أَكْثَرُهُمْ وَكَانَ رَئِيْسَ الَّذِيْنَ آَمَنُوْا جُنْدُعٌ بْنِ عَمْرِوٍ بْنِ مُحَلَّاةٍ بْنِ لَبِيْدٍ بْنِ جَوَّاسٍ، وَكَانَ مِنَ رُؤَسَائِهِمْ، وَهُمْ بَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ بِالْإِسْلَامِ..

فَصَدَّهُمْ ذُؤَابٌ بْنِ عَمْرِوٍ بْنِ لَبِيْدِ وَالْحُبَابُ صَاحِبِ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابٍ بْنِ صْمَعْرُ بْنِ جُلْمسّ. وَدَعَا جُنْدُعٌ ابْنِ عَمِّهِ شِهَابٍ خَلِيْفَةً، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَنَهَاهُ أُوْلَئِكَ، فَمَالِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ فِيْ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِيْنَ يُقَالُ لَهُ مُهْرَشْ بْنِ غَنَمَةَ بْنِ الذَّمِيلِ رَحِمَهُ الْلَّهُ:

وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آَلِ عَمْرِوٍ عَزِيْزٌ ثَمُوْدُ كُلُّهُمْ جَمِيْعَا لَأَصْبَحَ صَالِحٍ فِيْنَا عَزِيْزَا وَلَكِنَّ الْغُوَاةِ مِنْ آَلِ حَجَرٍ إِلَيَّ دِيَنِ الْنَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابا فَهُمْ بِأَنَّ يَجِبُ وَلَوْ أَجَابَا وَمَا عَدَلُوْا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا وَتَوَلَّوْ بَعْدَ رُشْدِهِمْ ذِئَابٌ.

{ هَذِهِ نَاقَةُ الْلَّهِ لَكُمْ آَيَةً } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:64)
أَضَافَهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىْ إِضَافَةِ تَّشْرِيْفِ وَتَعْظِيْمِ، كَقَوْلِهِ: بَيْتِ الْلَّهِ وَعَبْدُ الْلَّهِ (لَكُمْ آَيَةً) أَيُّ: دَلِيّلا عَلَىَ صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ

{ فَذَرُوْهَا تَأْكُلْ فِيْ أَرْضِ الْلَّهِ وَلَا تَمَسُّوْهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيْبٌ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:64)
فَاتَّفَقَ الْحَالْ عَلَىَ أَنْ تَبْقَىَ هَذِهِ الْنَّاقَةَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، تَرْعَىْ حَيْثُ شَاءَتْ مِنَ أَرْضَهُمْ، وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمَا بَعْدَ يَوْمْ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتْ الْمَاءِ تَشْرَبْ مَاءً الْبِئْرِ يَوْمَهَا ذَلِكَ، فَكَانُوْا يَرْفَعُوْنَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِيْ يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوْا يَشْرَبُوْنَ مِنْ لَبَنِهَا كِفَايَتِهِمْ..

وَلِهَذَا تَعَالَىْ:

{ لَهَا شَرَابٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُوْمٍ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:155) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَىْ: { إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } (سُوْرَةُ الْقَمَرِ:27) أَيُّ: اخْتِبَارَا لَهُمْ، أَيُؤْمِنُوْنَ بِهَا أَمْ يَكْفُرُوْنَ؟ وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُوْنَ: (فَارْتَقِبْهُمْ) أَيُّ: انْتَظَرَ مَا يَكُوْنُ مِنْ أَمْرِهِمْ (وَاصْطَبِرْ) عَلَىَ آذَاهُمْ فَسَيَأْتِيَكَ الْخَبَرِ عَلَىَ جَلِيَّةٍ.

{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءْ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } (سُوْرَةُ الْقَمَرِ:28) فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ هَذَا الْحَالِ اجْتَمَعَ عُلَمَاؤُهُمْ، وَاتَّفَقَ رَأَيِهِمْ عَلَىَ أَنْ يَعْقُرُوْا هَذِهِ الْنَّاقَةَ؛ لِيَسْتَرِيْحُوْا مِنْهَا وَيَتَوَفَّرُ عَلَيْهِمْ مَاؤُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الْشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، وَسَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلَىَ لَهُمْ.

قَالَ تَعَالَىْ:

{ فَعَقَرُوْا الْنَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوْا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنَّ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِيْنَ } (سُوْرَةُ الْأَعْرَافِ:77) وَكَانَ الَّذِيْ تَوَلَّىْ قَتَلَهَا مِنْهُمْ رَئِيْسُهُم: قَدَّارُ بْنِ سَالِفَ بْنِ جُنْدُعٌ، وَكَانَ أَحْمَرُ أَزْرَقُ أَصْهَبُ. وَكَانَ يُقَالُ إِنَّهُ وُلِدَ زَنْيَةً ولد عَلَيْ فِرَاشِ سَالِفِ، وَهُوَ مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ صَّبَّانَ. وَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيْعُهُمْ، فَلِهَذَا نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ كُلِّهُمْ.

وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفَسِّرِيْنَ: أَنْ امْرَأَتَيْنِ مِنْ ثَمُوْدَ اسْمَ أَحَدُهُمَا: "صَدُوْقٌ" ابْنَةُ الْحَيَا بْنِ زُهَيْرٍ بْنِ الْمُخْتَارِ، وَكَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ وَمَالَ..

وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَسْمَ فَفَارَقْتُهُ، فَدَعَتْ ابْنِ عَمَّ لَهَا يُقَالُ لَهُ مِصْدَعٌ بْنِ مُهَرِّجٍ بْنِ الْمَحْيَا وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ الْنَّاقَةَ، وَاسْمُ الْأُخْرَى: "عُنَيْزَةٍ" بِنْتِ غُنْمٌ بْنَ مِجْلَزٍ، وَتَكْنِيَ: أَمْ غَنِيّمَةً، وَكَانَتْ عَجُوَزا كَافِرَةٌ، لَهَا بَنَاتِ مِنْ زَوْجِهَا ذُؤَابٌ بْنِ عَمْرِوٍ أَحَدٌ الْرُّؤَسَاءِ..

فَعَرَضْتُ بَنَاتُهَا الْأَرْبَعِ عَلَىَ قَدَّارُ بْنِ سَالِفَ؛ إِنْ هُوَ عَقَرَ الْنَّاقَةَ فَلَهُ أَيُّ بَنَاتُهَا شَاءَ، فَانْتَدَبَ هَذَا الْشَّابَّانِ لِعَقْرُهَا وَسَعَوْا فِيْ قَوْمِهِمْ بِذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ سَبْعَةُ آَخَرُونَ فَصَارُوْا تِسْعَةً، وَهُمْ الْمَذْكُوْرُونَ

فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ:

{ وَكَانَ فِيْ الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُوْنَ فِيْ الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُوْنَ } (سُوْرَةُ الْنَّمْلِ:48)
وَسَعَوْا فِيْ بَقِيَّةِ الْقَبِيْلَةِ وَحَسنُوْا لَهُمْ عُقْرَهَا، فَأَجَابُوْهُمْ إِلَيَّ ذَلِكَ وَطَاوَّعُوَهُمْ فِيْ ذَلِكَ، فَانْطَلَقُوْا يَرْصُدُونَ الْنَّاقَةَ..

فَلَمَّا صَدَرْتُ مِنَ وِرْدِهَا كَمَنْ لَهَا "مَصْرَعُ" فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ عَظُمَ سَاقَهَا، وَجَاءَ الْنِّسَاءِ يُذْمَرْنَ الْقَبْيَلَةِ فِيْ قَتْلِهَا، وَحَسِرْنَ عَنْ وَجَوههْنَ تَرْغِيْبِا لَهُمْ فِيْ ذَلِكَ فَابْتدِرِهُمْ قَدَّارُ بْنِ سَالِفَ، فَشَدَّ عَلَيْهَا بِالْسَّيْفِ فَكَشَفَ عَنْ عُرْقُوْبِهَا فَخَرْتُ سَاقِطَةٍ عَلَىَ الْأَرْضِ..

وَرَغَتْ رْغَاةِ وَاحِدَةٍ عَظِيْمَةٍ تُحَذِّرُ وَلَدِهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِيْ لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبِهَا ـ وَهُوَ فَصِيْلِهَا ـ فَصَعِدَ جَبَلَا مَنِيْعا، وَرَغَا ثَلَاثَا.
وَرَوَّىْ عَبْدُ الْرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أُمِّيَّ؟ ثُمَّ دَخَلَ فِيْ صَخْرَةٍ فَغَابَ فِيْهَا. وَيُقَالُ: بَلْ اتَّبَعُوْهُ فَعَقَرُوْهُ أَيْضا.

قَالَ تَعَالَىْ:

{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىْ فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِيّ وَنُذُرِ } (سُوْرَةُ الْقَمَرِ:29ـ30) وَقَالَ تَعَالَىْ: { إِذَا انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُوْلُ الْلَّهِ نَاقَةَ الْلَّهِ وَسُقْيَاهَا } (سُوْرَةُ الْشَّمْسِ:12ـ13)
أَيُّ: احْذَرُوهُا.

{ فَكَذَّبُوْهُ فَعَقَرُوْهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَّبِّهِمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وِلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } (سُوْرَةُ الْشَّمْسِ:14ـ15) قَالَ الْإِمَامُ احْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْلَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ ـ هُوَ أَبُوْ عُرْوَةَ ـ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ عَبْدِ الْلَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْنَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِيْ عَقَرَهَا فَقَالَ: (إِذَا انْبَعَثَتْ أَشْقَاهَا) انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيْزٌ مُتِيْعٌ فِيْ رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِيْ زَمْعَةَ"
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيْثٌ هِشَام بِهِ. عَارِمٌ: أَيُّ شَهْمٌ. عَزِيْزٌ: أَيُّ رَئِيْسُ. مَنِيْعٍ: أَيُّ مُطَاعٍ فِيْ قَوْمِهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِيْ يَزِيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ بْنِ يَزِيْدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَىَ الْنَّاسِ"؟ قَالَ: بَلَىَ، قَالَ: "رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا أُحَيْمِرُ ثَمُوْدَ الَّذِيْ عَقَرَ الْنَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَىَ هَذَا ـ يَعْنِيْ قَرْنَهُ ـ حَتَّىَ تَبْتَلُّ مِنْهُ هَذِهِ ـ يَعْنِيْ لِحْيَتَهُ ـ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِيْ حَاتِمٍ.

وَقَالَ تَعَالَىْ: { فَعَقَرُوْا الْنَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوْا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنَّ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِيْنَ } (سُوْرَةُ الْأَعْرَافِ:77)
فَجَمَعُوا فِيْ كَلَامِهِمْ هَذَا بَيْنَ كُفْرٍ بَلِيْغٌ مِنْ وُجُوْهٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُمْ خَالَفُوُا الْلَّهَ وَرَسُوَلُهُ فِيْ ارْتِكَابِهِمْ الْنَّهْيُ الْأَكِيدُ فِيْ عُقْرِ الْنَّاقَةَ؛ الَّتِيْ جَعَلَهَا الْلَّهُ لَهُمْ آَيَةً. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا وُقُوْعِ الْعَذَابَ بِهِمْ، فَاسْتَحِقُوهُ مِنْ وَجْهَيْهِ: أَحَدُهُمَا: الْشَّرْطِ عَلَيْهِمْ فِيْ قَوْلِهِ: { وَلَا تَمَسُّوْهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيْبٌ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:64)

وَفِيْ آَيَةِ:
{ عَظِيْمٌ } (سُوْرَةُ الْشُّعَرَاءِ:156)
وَفِيْ الْأُخْرَى:
{ أَلِيْمٌ } (سُوْرَةُ الْأَعْرَافِ:73)
وَالْكُلُّ حَقٌ. وَالْثَّانِيْ: اسْتِعْجَالَهُمْ عَلَىَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَذَّبُوُا الْرَّسُوْلَ الَّذِيْ قَامَ الْدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَىَ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقَهُ، وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ ذَلِكَ عِلْمَا جَازِمَا، وَلَكِنَّ حَمَلَهُمْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْعِنَادِ عَلَىَ اسْتِبْعَادِ الْحَقِّ وَوُقُوْعِ الْعَذَابِ بِهِمْ.

قَالَ الْلَّهُ تَعَالَىْ:

{ فَعَقَرُوْهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِيْ دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوْبٍ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:65)
وَذَكَرُوَا أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوْا الْنَّاقَةَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ سَطَا عَلَيْهَا قَدَّارُ بْنِ سَالِفَ ـ لَعَنَهُ الْلَّهُ ـ فَعَرْقَبَهَا فَسَقَطَتْ إِلَيَّ الْأَرْضِ، ثُمَّ ابْتَدَرُوْهَا بِأَسْيَافِهِمْ يطُعُونَهَا، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ سَبَقَهَا ـ وَهُوَ وَلَدِهَا ـ شرِدَ عَنْهُمْ فِعْلَا أَعْلَىَ الْجَبَلِ هُنَاكَ، وَرَغَا ثَلَاثٍ مَرَّاتٍ.

فَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: (تَمَتَّعُوا فِيْ دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) أَيُّ: غَيْرَ يَوْمِهِمُ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ أَيَضَا فِيْ هَذَا الْوَعْدُ الْأَكِيدُ، بَلْ لَمَّا أَمْسَوْا هَمُّوْا بِقَتْلِهِ وَأَرَادُوَا ـ فِيْمَا يَزْعُمُوْنَ ـ أَنَّ يُلْحِقْوَهُ بِالْنَّاقَةِ. (قَالُوْا تَقَاسَمُوْا بِالْلَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) أَيُّ: لنكِبِسِنّهُ فِيْ دَارِهِ مَعَ أَهْلِهِ فَلَنَقْتُلِنّهُ، ثُمَّ لنَجحَدِنَ قَتَلَهُ، ولِنُنْكُرْنَ ذَلِكَ، إِنَّ طَالَبَنَا أَوْلِيَاؤُهُ بِدَمِهِ..

وَلِهَذَا قَالُوْا:

{ ثُمَّ لَنَقُوْلَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُوْنَ } (سُوْرَةُ الْنَّمْلِ:49)

قَالَ تَعَالَىْ:

{ وَمَكَرُوْا مَكْرَا وَمَكَرْنَا مَكْرَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِيْنَ * فَتِلْكَ بُيُوْتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوَا، إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لَآَيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُوْنَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا وَكَانُوْا يَتَّقُوْنَ } (سُوْرَةُ الْنَّمْلِ:50ـ53)

وَذَلِكَ أَنَّ الْلَّهَ تَعَالَىْ أَرْسَلَ عَلَىَ أُوْلَئِكَ الْنَّفَرِ الَّذِيْنَ قَصَدُوْا قتلَ صَالِحٍ حِجَارَةً رَضَخْتِهُمْ فَأَهْلَكَهُمْ سلفا وَتَعْجِيْلا قَبْلَ قَوْمَهُمْ، وَأَصْبَحَتْ ثَمُوْدُ يَوْمَ الْخَمِيْسِ ـ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنَ أَيَّامٍ الْنَّظْرَةَ ـ وَوُجُوْهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ؛ كَمَا أَنْذَرَهُمْ صَالِحَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادُوْا بِأَجْمَعِهِمْ أَلَا قَدْ مَضَىْ يَوْمُ مِنْ الْأَجَلِ..

ثُمَّ أَصْبَحُوا فِيْ الْيَوْمِ الْثَّانِيَ مِنْ أَيَّامِ الْتَّأْجِيْلُ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ـ وَوُجُوْهُهُمْ مُحَمَرَّةُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادُوْا: أَلَا قَدْ مَضَىْ يَوْمَانِ مِنْ الْأَجَلِ، ثُمَّ أَصْبَحُوا فِيْ الْيَوْمِ الْثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ الْمَتَاعِ وَهُوَ يَوْمُ الْسَّبْتِ ـ وَوُجُوْهُهُمْ مَسْوَدَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادُوْا: أَلَا قَدْ مَضَىْ الْأَجَلُ.

فَلَمَّا كَانَ صَبِيّحَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ تَحَنَّطُوا وَتَأَهَّبُوا وَقَعَدُوا يَنْتَظِرُوْنَ مَاذَا يَحُلُّ بِهِمْ مِنْ الْعَذَابَ وَالنَّكَالِ وَالْنَّقِمَةِ لَا يَدْرُوْنَ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهِمْ وَلَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يأْتِيَهِمْ الْعَذَابِ.

فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الْشَّمْسُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةً مِنْ الْسَّمَاءِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجْفَةٌ شَدِيْدَةٍ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتْ الْأَرْوَاحْ، وَزَهَقَتِ الْنُّفُوْسُ، وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَحُقَّتْ الْحَقَّائِقِ، فَأَصْبَحُوْا فِيْ دَارِهِمْ جَاثمِينَ، جُثَثَا لَا أَرْوَاحَ فِيْهَا وَلَا حِرَّاك بِهَا، قَالُوْا: وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَا جَارِيَةٌ كَانَتْ مُقْعَدَةٌ وَاسْمُهَا "كَلْبَةٌ" ابْنَةُ الْسِّلْقِ ـ وَيُقَالُ لَهَا الْذَّرَيْعَةَ ـ وَكَانَتْ شَدِيْدَةٍ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةُ لِصَالِحِ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْعَذَابَ أُطْلِقَتْ رِجْلَاهَا، فَقَامَتْ تَسْعَىَ كَأَسْرَعَ شَيْءٍ، فَأَتَتْ حَيا مِنْ الْعَرَبِ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا رَأَتْ وَمَا حَلَّ بِقَوْمِهَا وَاستَّسَقَتِهُمْ مَاءً، فَلَمَّا شَرِبْتُ مَاتَتْ.

{ أَلَا أَنْ ثَمُوْدَ كَفَرُوَا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدَا لِّثَمُوْدَ } (سُوْرَةُ هُوْدٍ:68) أَيُّ: نَادَى عَلَيْهِمْ لِسَانِ الْقَدْرِ بِهَذَا.

قَالَ الْإِمَامُ احْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْلَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِيْ الْزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لِمَا مَرَّ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَرِ قَالَ: "لَا تَسْأَلُوا الْآَيَاتِ وَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ صَالِحٍ، فَكَانَتْ ـ يَعْنِيْ الْنَّاقَةَ ـ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ تُصَدَّرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَلَىَ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوْهَا، فَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَا وَيَشْرَبُوْنَ لَبَنَهَا يَوْمَا، فعَقرَوْهَا فَأَخَذَتْهُمُ صَيْحَةً أُهْمَدَ الْلَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا مِنَ تَحْتَ أَدِيْمِ الْسَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَا رَجُلا وَاحِدَا كَانَ فِيْ حَرَمٍ الْلَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" فَقَالُوَا: مَنْ هُوَ يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ؟ قَالَ: "هُوَ أَبُوْ رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ". وَهَذَا الْحَدِيْثُ عَلَىَ شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِيْ شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ السِّتَّةَ، وَالْلَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْرَّزَّاقِ أَيْضا: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِيْ إِسْمَاعِيْلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ الْنَّبِيَّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ أَبِيْ رِغَالٍ، فَقَالَ: "أَتَدْرُوْنَ مَنْ هَذَا؟" قَالُوْا: الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هَذَا قَبْرُ أَبِيْ رِغَالٍ؛ رَجُلٌ مِنْ ثَمُوْدَ، كَانَ فِيْ حَرَمِ الْلَّهِ مَنَعَهُ حَرَّمُ الْلَّه مِنْ عَذَابِ الْلَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ هَاهُنَا، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوْهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَجَثَوْا عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنِ" قَالَ عَبْدُ الْرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الْزُّهْرِيُّ: أَبُوْ رِغَالٍ أَبُوْ ثَقِيْفٍ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ جَاءَ مِنْ وَجْهٍ آَخَرَ مُتَّصِلَا كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٍ بْنِ إِسْحَاقُ فِيْ الَسِّيَرَةِ عَنْ إِسْمَاعِيْلَ ابْنِ أُمَيَّةَ عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِيْ بُجَيْرٍ، قَالَ: سُمِعَتْ عَبْدِ الْلَّهِ بْنِ عُمَرٍ يَقُوْلُ: سُمِعَتْ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَيَّ الْطَّائِفِ، فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ؛ فَقَالَ: "إِنِ هَذَا قَبْرُ أَبِيْ زِغَالٍّ وَهُوَ أَبُوْ ثَقِيْفٍ؛ وَكَانَ مِنْ ثَمُوْدَ؛ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يُدْفَعُ عَنْهُ؛ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيْهِ، وَآَيَةً ذَلِكَ أَنّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوُهُ مَعَهُ" فَابْتَدَرَهُ الْنَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنَ الْغُصْنِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُوْ دَاوُدَ مِنْ طَرِيْقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.

قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُوْ الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رَحِمَهُ الْلَّهُ: هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ عَزِيْزٌ. قُلْتُ: تَفَرَّدَ بِهِ بُجَيْرٍ بْنِ أَبِيْ بُجَيْرٍ هَذَا، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيْثِ، وَلَمْ يُرْوِ عَنْهُ سِوَىْ إِسْمَاعِيْلَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ شَيْخُنَا: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَهُمْ فِيْ رَفْعِهِ، وَإِنَّمَا يَكُوْنُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْلَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ زَامِلَتَيْهِ. وَالْلَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: لَكِنْ فِيْ الْمُرْسَلِ الَّذِيْ قَبْلَهُ، وَفِيْ حَدِيْثِ جَابِرٍ، شَاهِدٌ لَهُ، وَالْلَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَىْ:
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّيَ وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنَّ لَا تُحِبُّوْنَ الْنَّاصِحِيْنَ } (سُوْرَةُ الْقَمَرِ:29ـ30)

إِخْبَارٌ عَنْ صَالِحِ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ، أَنَّهُ خَاطَبَ قَوْمِهِ بَعْدَ هَلْاكِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ فِيْ الْذَّهَابِ عَنْ مَحَلَّتَهُمْ إِلَيَّ غَيْرَهَا قَائِلا لَهُمْ: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّيَ وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أَيُّ: جَهَدْتُ فِيْ هَدَيْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَنِي، وَحَرِصْتُ عَلَىَ ذَلِكَ بِقَوْلِيَ وَفِعْلِيْ وَنِيَّتِي. (وَلَكِنَّ لَا تُحِبُّوْنَ الْنَّاصِحِيْنَ)

أَيُّ: لَمْ تَكُنْ سَجَايَاكُمْ تَقَبَّلْ الْحَقِّ وَلَا تُرِيْدُهُ، فَلِهَذَا صِرْتُمْ إِلَيَّ مَا أَنْتُمْ فِيْهِ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، الُمَسْتَمِرٌّ بِكُلِّ الْمُتَّصَلِ إِلَيَّ الْأَبَدِ، وَلَيْسَ لِيَ فِيْكُمُ حِيْلَةً وَلَا لِيَ بِالْدَّفْعِ عَنْكُمْ يَدَانِ، وَالَّذِي وَجَبَ عَلَيَّ مِنْ أَدَاءِ الْرِّسَالَةِ وَالْنُّصْحِ لَكُمْ قَدْ فَعَلْتُهُ وَبِذْلَتِهِ لَكُمْ، وَلَكِنَّ الْلَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ.

وَهَكَذَا خَطَبَ الْنَّبِيُّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ قَلِيْبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ لَيَالٍ؛ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَأْمُرْ بِالْرَحِيْلِ مِنْ آَخِرِ الْلَّيْلِ، فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقا؟ فَإِنِّيَ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّيَ حَقا" وَقَالَ لَهُمْ فِيْمَا قَالَ: "بِئْسَ عَشِيْرَةُ الْنَّبِيّ كُنْتُمْ لِنَبِّيكُم، كَذَّبْتُمُونِيَ وَصَدَّقَنِي الْنَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِيْ وَآَوَانِيُّ الْنَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُوْنِيّ وَنَصَرَنِي الْنَّاسُ، فَبِئْسَ عَشِيْرَةِ الْنَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِّيكُم".

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ تَخَاطِبُ أَقْوَامُا قَدْ جَيَّفُوْا؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِيْ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُوْلُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيِبُونَ". وَسَيَأْتِيَ بَيَانُهُ فِيْ مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الْلَّهُ.. وَيُقَالُ: إِنَّ صَالِحَا ـ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ ـ انْتَقَلَ إِلَيَّ حَرَّمَ الْلَّهُ، فَأَقَامَ بِهِ حَتَّىَ مَاتَ.

قَالَ الْإِمَامُ احْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيْعٌ، وَحَدَّثَنَا زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ: لِمَا مَرَّ الْنَّبِيُّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِيْ عُسْفَانَ حِيْنَ حَجَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟" قَالَ: وَادِيْ عُسْفَانَ، قَالَ: "لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُوْدٌ وَصَالِحٌ عَلَيْهِمَا الْسَّلامُ عَلَىَ بَكَرَاتٍ خَطْمِهَا اللِّيْفِ، أُزُرُهُمْ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتِهِمْ الْنِّمَارِ يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ". إِسْنَادٌ حَسَنٌ

يتبع انشاء الله




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:47 pm

شَيْث عَلَيْه الْسَّلَام

وَمَعْنَى شَيْث هِبَة الْلَّه، وسَمِيَّاه بِذَلِك لِأَنَّهُمَا رَزَقَاه بَعْد أَن قَتَل هَابِيل‏.‏ قَال أَبُو ذَر فِي حَدِيْثِه عَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم‏:‏
‏(‏‏(‏إِن الْلَّه أَنْزَل مِائَة صَحِيْفَة وَأَرْبَع صُحُف‏)‏‏)‏‏.‏
عَلَى شَيْث خَمْسِيْن صَحِيْفَة‏.‏

قَال مُحَمَّد بْن إِسْحَاق‏:‏ وَلَمَّا حَضَرَت آَدَم الْوَفَاة، عَهْد إِلَى ابْنِه شِيْث وَعَلَّمَه سَاعَات الْلَّيْل وَالْنَّهَار، وَعَلَّمَه عِبَادَات تِلْك الْسَّاعَات، وَأَعْلَمَه بِوُقُوْع الْطُّوفَان بَعْد ذَلِك‏.‏

قَال‏:‏ وَيُقَال إِن انْتِسَاب بَنِي آَدَم الْيَوْم كُلَّهَا تَنْتَهِي إِلَى شَيْث‏.‏ وَسَائِر أَوْلَاد آَدَم غَيْرِه انْقَرَضُوا وَبَادُوَّا وَالْلَّه أَعْلَم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 110‏)‏

فَلَمَّا مَات آَدَم عَلَيْه الْسَّلَام، قَام بِأَعْبَاء الْأَمْر بَعْدِه وُلْدُه شَيْث عَلَيْه الْسَّلَام‏.‏ وَكَان نَبِيّا بِنَص الْحَدِيْث، الَّذِي رَوَاه ابْن حِبَّان فِي ‏(‏صَحِيْحِه‏)‏، عَن أَبِي ذَر مَرْفُوْعا، أَنَّه أُنْزِل عَلَيْه خَمْسُوْن صَحِيْفَة، فَلَمَّا حَانَت وَفَاتِه، أَوْصَى إِلَى ابْنِه أَنُوش، فَقَام بِالْأَمْر بَعْدَه، ثَم بَعْدِه وُلْدُه قَيْنَن‏.‏

ثُم مِن بَعْدِه ابْنُه مَهْلَايِيل، وَهُو الَّذِي يَزْعُم الْأَعَاجِم مِن الْفَرَس، أَنَّه مَلِك الْأَقَالِيم الْسَّبْعَة، وَأَنَّه أَوَّل مَن قَطَع الْأَشْجَار، وَبَنَى الْمَدَائِن، وَالْحُصُوْن الْكِبَار‏.‏ وَأَنَّه هُو الَّذِي بَنَى مَدِيْنَة بَابِل، وَمَدِيْنَة الْسُّوْس الْأَقْصَى‏.‏

وَأَنَّه قَهَر إِبْلِيْس وَجُنُوْدِه، وَشَرِّدْهُم عَن الْأَرْض إِلَى أَطْرَافِهَا، وَشِعَاب جِبَالِهَا، وَأَنَّه قَتَل خَلْقَا مِّن مَرَدَة الْجِن، وَالْغِيْلَان، وَكَان لَه تَاج عَظِيْم، وَكَان يَخْطُب الْنَّاس، وَدَامَت دَوْلَتِه أَرْبَعِيْن سَنَة‏.‏

فَلَمَّا مَات، قَام بِالْأَمْر بَعْدِه وُلْدُه يُرِد، فَلَمَّا حَضَرَتْه الْوَفَاة، أَوْصَى إِلَى وَلَدِه خَنُوخ، وَهُو إِدْرِيْس عَلَيْه الْسَّلَام، عَلَى الْمَشْهُوْر‏.‏

يتيع انشلء الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:51 pm

شَمْوَيْل عَلَيْه الْسَّلَام

فَلَمَّا تَرَعْرَع بَعَثْتَه إِلَي الْمَسْجِد وَأَسْلَمْتُه عِنْد رَجُل صَالِح فِيْه يَكُوْن عِنْدَه لِيَتَعَلَّم مِن خَيْرِه وَعِبَادَتِه، وَكَان عِنْدَه فَلَمَّا بَلَغ أَشُدَّه بَيْنَمَا هُو ذَات لَيْلَة نَائِم إِذَا صَوْت يَأْتِيَه مِن نَاحِيَة الْمَسْجِد، فَانْتَبَه مَذْعُوْرَا، فَظَنَّه الْشَّيْخ يَدْعُوَه فَسَأَلَه: أَدَعَوْتَنِي؟ فَكَرِه أَن يُفْزِعُه فَقَال: نَعَم نَم، فَنَام. ثُم نَادَاه الْثَّانِيَة فَكَذَلِك ثُم الثَّالِثَة فَإِذَا جِبْرِيْل يَدْعُوَه، فَجَاءَه فَقَال: إِن رَبَّك قَد بَعَثَك إِلَي قَوْمُك. فَكَان مِن أَمْرِه مَعَهُم مَا قَص الْلَّه فِي كِتَابِه.

{ أَلَم تَر إِلَي الْمَلَأ مِن بَنِي إِسْرَائِيْل مِن بَعْد مُوْسَى إِذ قَالُوْا لِنَبِي لَّهُم ابْعَث لَنَا مَلِكَا تُقَاتِل فِي سَبِيِل الْلَّه، قَال هَل عَسَيْتُم إِن كُتِب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلَا تُقَاتِلُوْا، قَالُوَا وَمَا لَنَا أَلَا نُقَاتِل فِي سَبِيِل الْلَّه وَقَد أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَلَمَّا كُتِب عَلَيْهِم الْقِتَال تَوَلَّوْا إِلَا قَلِيْلا مِّنْهُم، وَالْلَّه عَلِيِّم بِالْظَّالِمِيْن * وَقَال لَهُم نَبِيُّهُم إِن الْلَّه قَد بَعَث لَكُم طَالُوْت مَلِكَا، قَالُوْا أُتِي يَكُوْن لَه الْمُلْك عَلَيْنَا وَنَحْن أَحَق بِالْمُلْك مِنْه، وَلَم يُؤْت سَعَة مِّن الْمَال، قَال إِن الْلَّه اصْطَفَاه عَلَيْكُم وَزَادَه بَسْطَة فِي الْعِلْم وَالْجِسْم، وَالْلَّه يُؤْتِي مُلْكَه مَن يَشَاء وَالْلَّه وَاسِع عَلِيِّم * وَقَال لَهُم نَبِيُّهُم إِن آَيَة مُلْكِه أَن يَأْتِيَكُم الْتَّابُوْت فِيْه سَكِيْنَة مِّن رَّبِّكُم وَبَقِيَّة مِّمَّا تَرَك آَل مُوْسَى وَآَل هَارُوْن تَحْمِلُه الْمَلَائِكَة إِن فِي ذَلِك لَآَيَة لَّكُم إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن * فَلَمَّا فَصَل طَالُوْت بِالْجُنُوْد قَال إِن الْلَّه مُبْتَلِيَكُم بِنَهَر فَمَن شَرِب مِنْه فَلَيْس مِنِّي وَمَن لَّم يَطْعَمْه فَإِنَّه مِنِّي إِلَا مَن اغْتَرَف غُرْفَة بِيَدِه، فَشَرِبُوا مِنْه إِلَا قَلِيْلا مِّنْهُم، فَلَمَّا جَاوَزَه هُو وَالَّذِين آَمَنُوُا مَعَه قَالُوْا لَا طَاقَة لَنَا الْيَوْم بِجَالُوْت وَجُنُوْدِه، قَال الَّذِيْن يَظُنُّوْن أَنَّهُم مُّلاقُو الْلَّه كَم مِّن فِئَة قَلِيْلَة غَلَبَت فِئَة كَثِيْرَة بِإِذْن الْلَّه وَالْلَّه مَع الصَّابِرِيْن * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوْت وَجُنُوْدِه قَالُوْا رَبَّنَا افْرِغ عَلَيْنَا صَبْرَا وَثَبِّت أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِيْن * فَهَزَمُوْهُم بِإِذْن الْلَّه وَقَتَل دَاوُد جَالُوْت وَآَتَاه الْلَّه الْمُلْك وَالْحِكْمَة وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَاء وَلَوْلَا دَفْع الْلَّه الْنَّاس بَعْضَهُم بِبَعْض لَفَسَدَت الْأَرْض وَلَكِن الْلَّه ذُو فَضْل عَلَى الْعَالَمِيْن } (سُوْرَة الْبَقَرَة:246ـ251)

قَال أَكْثَر الْمُفَسِّرِيْن: كَان نَبِي هَؤُلَاء الْقَوْم الْمَذْكُوْرِيْن فِي هَذِه الْقِصَّة هُو شَمْوَيْل وَقِيْل: شِمْعُون، وَقِيْل: هُمَا وَاحِد. وَقِيْل: يُوْشَع، وَهَذَا بَعِيْد لِمَا ذَكَرَه الْإِمَام أَبُو جَعْفَر بْن جَرِيْر فِي تَارِيْخِه أَن بَيْن مَوْت يُوْشَع وَبَعَثَه شَمْوَيْل أَرْبَعِمِائَة سَنَة وَسِتِّيْن سَنَة، فَاللَّه أَعْلَم.

وَالْمَقْصُوْد أَن هَؤُلَاء الْقَوْم لَمَّا أَنْهَكَتْهُم الْحُرُوْب، وَقَهَرَهُم الْأَعْدَاء، سَأَلُوْا نَبِي الْلَّه فِي ذَلِك الْزَّمَان، وَطَلَبُوا مِنْه أَن يَنْصِب لَهُم مِلْكَا يَكُوْنُوْن تَحْت طَاعَتِه لِيُقَاتِلُوَا مِن وَرَائِه وَمَعَه وَمَن بَيَّن يَدَيْه الْأَعْدَاء،

فَقَال لَهُم:

(هَل عَسَيْتُم إِن كُتِب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلَا تُقَاتِلُوْا قَالُوْا وَمَا لَنَا أَلَا نُقَاتِل فِي سَبِيِل الْلَّه) أَي: وَأَي شَيْء يَمْنَعُنَا مِن الْقِتَال (وَقَد أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) يَقُوْلُوْن: نَحْن مَحُرُوبُون مَوَتُوْرُوْن فَحَقِّيق لَنَا أَن نُقَاتِل عَن أَبْنَائِنَا الْمَنْهُورِين الْمُسْتَضْعَفِيْن فِيْهِم الْمَأْسُورِين فِي قَبْضَتِهِم.

قَال الْلَّه تَعَالَى:

{ فَلَمَّا كُتِب عَلَيْهِم الْقِتَال تَوَلَّوْا إِلَا قَلِيْلا مِّنْهُم، وَالْلَّه عَلِيِّم } (سُوْرَة الْبَقَرَة:246)
كَمَا ذُكِر فِي آَخِر الْقِصَّة أَنَّه لَم يُجَاوِز الْنَّهْر مَع الْمَلِك إِلَا الْقَلِيْل، وَالْبَاقُوْن رَجَعُوَا وَنَكَّلُوا عَن الْقِتَال.

وَقَال لَهُم نَبِيُّهُم:

{ إِن الْلَّه قَد بَعَث لَكُم طَالُوْت مَلِكَا } (سُوْرَة الْبَقَرَة:246ـ251)

قَال الْثَّعْلَبِي: وَهُو طَالُوْت بْن قَيْش بْن أَنْيَال بْن صُرّار بْن لَحُوْب بْن أَفِيْح بْن أُرَيْش ابْن بِنْيَامِين بْن يَعْقُوْب بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيْم الْخَلِيْل. قَال عِكْرِمَة وَالْسُّدِّي: كَان سَقَّاء، وَقَال وَهْب بْن مُنَبِّه: كَان دَبَّاغا، وَقِيْل غَيْر ذَلِك، فَاللَّه أَعْلَم. وَلِهَذَا (قَالُوْا أُتِي يَكُوْن لَه الْمُلْك عَلَيْنَا وَنَحْن أَحَق بِالْمُلْك مِنْه، وَلَم يُؤْت سَعَة مِّن الْمَال)

وَلَقَد ذَكَرُوْا أَن الْنُّبُوَّة كَانَت فِي سِبْط لَاوِي، وَأَن الْمُلْك كَان فِي سِبْط يَهُوَذَا، فَلَمَّا كَان هَذَا مِن سِبْط بِنْيَامِين نَفَرُوْا مِنْه، وَطَعَنُوْا فِي إِمَارَتِه عَلَيْهِم، وَقَالُوْا: نَحْن أَحَق بِالْمُلْك مِنْه، وَقَد ذَكَرُوْا أَنَّه فَقِيْر لَا سَعَة مِن الْمَال مَعَه، فَكَيْف يَكُوْن مِثْل هَذَا مُلْكَا؟. (قَال إِن الْلَّه اصْطَفَاه عَلَيْكُم وَزَادَه بَسْطَة فِي الْعِلْم وَالْجِسْم)

قِيَل: كَان الْلَّه قَد أُوْحِي إِلَي شَمْوَيْل أَن أُي بَنِي إِسْرَائِيْل كَان طُوِّلُه عَلَى طُول هَذِه الْعَصَا، وَإِذَا حَضَر عِنْدَك يَفُوْر هَذَا الْقَرْن الَّذِي فِيْه مِن دُهْن الْقُدُس فَهُو مَلِكُهُم، فَجَعَلُوْا يَدْخُلُوْن وَيَقِيْسُوْن أَنْفُسِهِم بِتِلْك الْعَصَا، فَلَم يَكُن أَحَد مِنْهُم عَلَى طُوِّلُهَا سِوَى طَالُوْت، وَلَمَّا حَضَر عِنْد شَمْوَيْل فَار ذَلِك الْقَرْن فَدَهَنَه مِنْه وَعَيْنُه لِلْمَلِك عَلَيْهِم، وَقَال لَهُم (إِن الْلَّه اصْطَفَاه عَلَيْكُم وَزَادَه بَسْطَة فِي الْعِلْم) قِيَل: الْطَّوْل، وَقِيْل: الْجَمَال، وَالْظَّاهِر فِي السِّيَاق أَنَّه كَان أَجْمَلُهُم وَأَعْلَمُهُم بَعْد نَبِيُّهُم عَلَيْه الْسَّلَام (وَالْلَّه يُؤْتِي مُلْكَه مَن يَشَاء) فَلَه الْحَم وَلَه الْخَلْق وَالْأَمْر (وَالْلَّه وَاسِع عَلِيِّم).

(وَقَال لَهُم نَبِيُّهُم إِن آَيَة مُلْكِه أَن يَأْتِيَكُم الْتَّابُوْت فِيْه سَكِيْنَة مِّن رَّبِّكُم وَبَقِيَّة مِّمَّا تَرَك آَل مُوْسَى وَآَل هَارُوْن تَحْمِلُه الْمَلَائِكَة إِن فِي ذَلِك لَآَيَة لَّكُم إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن)

وَهَذَا أَيْضا مِن بَرَكَة وَلَايَة هَذَا الْرَّجُل الْصَّالِح عَلَيْهِم وَيُمَنِّه عَلَيْهِم أَن يُرِد الْلَّه عَلَيْهِم الْتَّابُوْت الَّذِي كَان سَلَب مِنْهُم وَقَهَرَهُم الْأَعْدَاء عَلَيْه، وَقَد كَانُوْا يُنْصَرُوْن عَلَى أَعْدَائِهِم بِسَبَبِه (فِيْه سَكِيْنَة مِّن رَّبِّكُم) قِيَل: طَسْت مِن ذَهَب كَان يَغْسِل فِيْه صُدُوْر الْأَنْبِيَاء. وَقِيْل: الْسَّكِينَة مِثْل الْرِّيْخ الخَجوح. وَقِيْل: صَوْتَهَا مِثْل الْهِرَّة إِذَا صَرَخْت فِي حَال الْحَرْب أَيْقَن بَنُو إِسْرَائِيْل بِالْنَصْر (وَبَقِيَّة مِمَّا تَرَك آَل مُوْسَى وَآَل هَارُوْن) قِيَل: كَان فِيْه رُضَاض الْأَلْوَح وَشَيْء مِّن الْمَن الَّذِي كَان نَزَل عَلَيْهِم بِالْتّيْه (تَحْمِلُه الْمَلَائِكَة) أَي: بَاهِرَة عَلَى صِدْق مَا أَقُوْلُه لَكُم، وَعَلَى صِحَّة وَلَايَة هَذَا الْمَلَك الْصَّالِح عَلَيْكُم، وَلِهَذَا قَال: (إِن فِي ذَلِك لَآَيَة لَّكُم إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن).

وَقِيْل: إِنَّه لَمَّا غَلَب الْعَمَالِقَة عَلَى هَذَا الْتَّابُوْت وَكَان فِيْه مَا ذُكِر مِن الْسَّكِينَة وَالْبَقِيَّة الْمُبَارَكَة، وَقِيْل: كَان فِيْه الْتَّوْرَاة أَيْضا، فَلَمَّا اسْتَقَر فِي أَيْدِيَهِم وَضَعُوْه تَحْت صَنَم لَهُم بِأَرْضِهِم، فَلَمَّا أَصْبَحُوْا إِذَا الْتَّابُوْت عَلَى رَأْس الْصَّنَم فَوَضَعُوه تَحْتَه"، فَلَمَّا كَان الْيَوْم الْثَّانِي إِذَا الْتَّابُوْت فَوْق الْصَّنَم، فَلَمَّا تُكَرِّر هَذَا عَلِمُوْا أَن هَذَا الْأَمْر مِن الْلَّه تَعَالَى، فَأَخْرَجُوْه مِن بَلَدِهِم وَجَعَلُوْه فِي قَرْيَة مِّن قُرَاهُم، فَأَخَذَهُم دَاء فِي رِقَابِهِم، فَلَمَّا طَال عَلَيْهِم هَذَا جَعَلُوْه فِي عَجَلَة وَرَبَطُوهَا فِي بَقَرَتَيْن وَأَرْسِلُوهُما، فَيُقَال: إِن الْمَلَائِكَة سَاقَتِهَا حَتَّى جَاءُوَا بِهَا مُلْأ بَنِي إِسْرَائِيْل وَهُم يَنْظُرُوْن كَمَا أَخْبَرَهُم نَبِيُّهُم بِذَلِك، فَاللَّه أَعْلَم عَلَى أَي صِفَة جَاءَت بِه الْمَلَائِكَة، وَالْظَّاهِر أَن الْمَلَائِكَة كَانَت تَحْمِلُه بِأَنْفُسِهِم كَمَا هُو الْمَفْهُوْم مِن الْآَيَة، وَالْلَّه أَعْلَم. وَإِن كَان الْأَوَّل قَد ذَكَرَه كَثِيْر مِن الْمُفَسِّرِيْن أَو أَكْثَرِهِم.

(فَلَمَّا فَصَل طَالُوْت بِالْجُنُوْد قَال إِن الْلَّه مُبْتَلِيَكُم بِنَهَر فَمَن شَرِب مِنْه فَلَيْس مِنِّي وَمَن لَّم يَطْعَمْه فَإِنَّه مِنِّي إِلَا مَن اغْتَرَف غُرْفَة بِيَدِه)

قَال ابْن عَبَّاس وَكَثِيْر مِّن الْمُفَسِّرِيْن: هَذَا الْنَّهَر هُو نَهَر الْأُرْدُن، وَهُو الْمُسَمَّى بِالْشَّرِيِعَة فَكَان مِن أَمْر طَالُوْت بِجُنُوْدِه عِنْد هَذَا الْنَّهَر عَن أَمْر نَبِي الْلَّه لَه عَن أَمْر الْلَّه لَه اخْتِبَارَا وَامْتِحَانَا: أَن مَن شَرِب مِن هَذَا الْنَّهْر الْيَوْم فَلَا يَصْحَبُنِي فِي هَذِه الْغَزْوَة، وَلَا يَصْحَبُنِي إِلَّا مَن لَم يَطْعَمْه إِلَا غُرْفَة فِي يَدِه. قَال الْلَّه تَعَالَى: (فَشَرِبُوا مِنْه إِلَا قَلِيْلا مِّنْهُم).

قَال الْسُّدِّي: كَان الْجَيْش ثَمَانِيَن أَلْفَا، فَشَرِب مِنْه سِتَّة وَسَبْعُوْن أَلْفَا، فَبَقِى مَعَه أَرْبَعَة آَلَاف كَذَا قَال. وَقَد رُوِي الْبُخَارِي فِي صَحِيْحِه مِن حَدِيْث إِسْرَائِيْل وَزُهَيْر وَالْثَّوْرِي، عَن أَبِي إِسْحَاق، عَن الْبَرَاء بْن عَازِب، قَال: كُنَّا أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم نَتَحَدَّث أَن عِدَّة أَصْحَاب بَدْر عَلَى عِدَّة أَصْحَاب طَالُوْت الَّذِيْن جَاوَزُوْا مَعَه الْنَّهَر، وَلَم يُجَاوِز مَعَه الْنَّهَر، وَلَم يُجَاوِز مَعَه إِلَّا بِضْعَة عَشَر وَثَلَثُمِائَة مُؤْمِن.

وَقَوْل الْسُّدِّي: إِن عِدَّة الْجَيْش كَانُوْا ثَمَانِيَن أَلْفَا فِيْه نَظَر؛ لِأَن أَرْض بَيْت الْمَقْدِس لَا تَحْتَمِل أَنَّه يَجْتَمِع فِيْهَا جَيْش مُقَاتَلَة يُبَلِّغُوْن ثَمَانِيَن أَلْفَا، وَاللَّه أَعْلَم قَال الْلَّه تَعَالَى: (فَلَمَّا جَاوَزَه هُو وَالَّذِين آَمَنُوُا مَعَه قَالُوْا لَا طَاقَة لَنَا الْيَوْم بِجَالُوْت وَجُنُوْدِه) أَي: اسْتَقَلُّوْا أَنْفُسِهِم واسْتُضَعَفُوْهَا عَن مُقَاوَمَة أَعْدَائَهُم بِالْنَّسْبَة إِلَي قِلَّتِهِم وَكَثْرَة عَدَد عَدُوّهُم.

(قَال الَّذِيْن يَظُنُّوْن أَنَّهُم مُّلاقُو الْلَّه كَم مِّن فِئَة قَلِيْلَة غَلَبَت فِئَة كَثِيْرَة بِإِذْن الْلَّه وَالْلَّه مَع الصَّابِرِيْن)
يَعْنِي: ثَبِّتْهُم الْشُّجْعَان مِنْهُم، وَالْفُرْسَان أَهْل الْإِيْمَان وَالْإِيقَان، الصَّابِرُوْن عَلَى الْجِلَاد وَالْجِدَال وَالْطِّعَان. (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوْت وَجُنُوْدِه قَالُوْا رَبَّنَا افْرِغ عَلَيْنَا صَبْرَا وَثَبِّت أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِيْن) وَطَلَبُوا مِن الْلَّه أَن يَفْرُغ عَلَيْهِم الْصَّبْر، أَي: يَغْمُرُهُم بِه مِن فَوْقِهِم فَتَسْتَقِر قُلُوْبُهُم وَلَا تُقْلِق، وَأَن يُثَبِّت أَقْدَامَهُم فِي مَجَال الْحَرْب، وَمُعْتَرَك الْأَبْطَال، وَحَوْمَة الْوَغَي، وَالْدُّعَاء إِلَي الْنِّزَال، فَسَأَلُوْا الْتَّثْبِيْت الْظَّاهِر وَالْبَاطِن وَأَن يَنْزِل عَلَيْهِم الْنَّصْر عَلَى أَعْدَائِهِم وَأَعْدَائِه مِن الْكَافِرِيْن الْجَاحِدِين بِآَيَاتِه وَآَلَائِه، فَأَجَابَهُم الْعَظِيْم الْقَدِيْر الْسَّمِيْع الْبَصِيْر الْحَكِيْم الْخَبِيْر إِلَي مَا سَأَلُوْا، وَأنَالَهُم مَا إِلَيْه فِيْه رَغِبُوْا. وَلِهَذَا قَال: (فَهَزَمُوْهُم بِإِذْن الْلَّه).

أَي: يَحُوْل الْلَّه وَقُوَّتِه لَا بِحَوَلِهِم، وَبِقُوَّة الْلَّه وَنَصْرَه لَا بِقُوَّتِهِم وَعَدَدُهُم، مَع كَثْرَة أَعْدَاءَهُم وَكَمَال عَدَدُهُم،

كَمَا قَال تَعَالَى:

{ وَلَقَد نَصَرَكُم الْلَّه بِبَدْر وَأَنْتُم أَذِلَّة فَاتَّقُوا الْلَّه لَعَلَّكُم تَشْكُرُوْن } (سُوْرَة آَل عِمْرَان:123)

وَقَوْلُه تَعَالَى:

{ وَقَتَل دَاوُد جَالُوْت وَآَتَاه الْلَّه الْمُلْك وَالْحِكْمَة وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَاء }
فِيْه دَلَالَة عَلَى شُجَاعَة دَاوُد عَلَيْه الْسَّلام، وَأَنَّه قَتَلَه قَتْلَا أَذَل بِه جُنْدَه وَكَسْر جَيْشِه، وَلَا أَعْظَم مِن غَزْوَة يُقْتَل فِيْهَا مَلِك عَدُوِّه فَيَغْنَم بِسَبَب ذَلِك الْأَمْوَال الْجَزِيلَة، وَيَأْسِر الْأَبْطَال الْشُّجْعَان وَالْأَقْرَان، وَتَعْلُو كَلِمَة الإِيْمَان عَلَى الْأَوْثَان، وَيُدَال لِأَوْلِيَاء الْلَّه عَلَى أَعْدَائِه، وَيَظْهَر الْدِّيْن الْحَق عَلَى الْبَاطِل وَأَوْلِيَائِه.

وَقَد ذَكَر الْسُّدِّي فِيْمَا يَرْوِيْه أَن دَاوُد عَلَيْه الْسَّلام كَان أَصْغَر أَوْلَاد أَبِيْه، وَكَانُوْا ثَلَاثَة عَشَر ذَكَرَا، كَان سَمِع طَالُوْت مَلِك بَنِي إِسْرَائِيْل وَهُو يُحَرِّض بَنِي إِسْرَائِيْل عَلَى قَتْل جَالُوْت وَجُنُوْدُه وَهُو يَقُوْل: مَن قَتَل جَالُوْت زَوَّجْتُه بِابْنَتِي وَأَشَرَكَتِه فِي مُلْكِي، وَكَان دَاوُد عَلَيْه الْسَّلام يَرْمِي بِالقَذَافَة وَهُو الْمِقْلاع رَمْيَا عَظِيْمَا، فَبَيْنَمَا وَهُو سَائِر مَع بَنِي إِسْرَائِيْل إِذ نَادَاه حُجْر أَن خُذْنِي فَإِن بِي تَقْتُل جَالُوْت؛ فَأَخَذَه، ثُم حَجَر آَخِر كَذَلِك ثُم آَخِر كَذَلِك، فَأَخَذ الثَّلَاثَة فِي مِّخْلَاتِه، فَلَمَّا تُوَاجِه الصَّفَّان بَرَز جَالُوْت وَدَعَا إِلَي نَفْسِه، فَتَقَدَّم إِلَيْه دَاوُد فَقَال لَه: ارْجِع فَإِنِّي اكْرِه قَتَلَك، فَقَال: لَكِنِّي احِب قَتَلَك.

وَأَخَذ تِلْك الْأَحْجَار الْثَّلاثَة فَوَضَعَهَا فِي الْقَذَّافَة، ثُم أَدَارَهَا فَصَارَت الْثَّلاثَة حَجَرَا وَاحِدَا، ثُم رَمَى بِهَا جَالُوْت فَلَق رَأْسَه وَفِّر جَيْشِه مُنْهَزِمَا، فَوَفَى لَه طَالُوْت بِمَا وَعَدَه فَزَوَّجَه ابْنَتَه، وَأَجْرَى حُكْمُه فِي مُلْكِه، وَعَظُم دَاود عَلَيْه الْسَّلَام عِنْد بَنِي إِسْرَائِيْل وَأَحَبُّوه، وَمَالُوْا إِلَيْه أَكْثَر مَن طَالُوْت. فَذَكَرُوا أَن طَالُوْت حَسَدَه وَأَرَاد قَتَلَه، وَاحْتَال عَلَى ذَلِك فَلَم يُصَل إِلَيْه، وَجَعَل الْعُلَمَاء يَنْهَوْن طَالُوْت عَن قَتْل دَاوُد، فَتَسَلَّط عَلَيْهِم فَقَتَلَهُم حَتَّى لَم يَبْق مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيْل، ثُم حَصَل لَه تَوْبَة وَنَدِم وَأَقْلَع عَمَّا سَلَف مِنْه، وَجَعَل يُكْثِر مِن الْبُكَاء، وَيُخْرِج إِلَي الْجَبَّانَة فَيَبْكِي حَتَّى يَبُل الْثَّرَى بِدُمُوْعِه، فَنُوْدِي ذَات يَوْم مِن الْجَبَانَة: أَن يَا طَالُوْت قَتَلَتَنَا وَنَحْن أَحْيَاء وآذَّيْتِنا وَنَحْن أَمُوْت؛ فَازْدَاد لِذَلِك بُكَاؤُه وَخَوْفِه وَاشْتَد وَجِلَّه، ثُم جَعَل يَسْأَل عَن عَالَم يَسْأَلُه عَن أَمْرِه وَهَل لَه مِن تَوْبَة، فَقِيْل لَه: وَهَل أَبْقَيْت عَالِمْا؟! حَتَّى ذَلِك عَلَى امْرَأَة مِن الْعَابِدَات فَأَخَذْتُه فَذَهَبْت بِه إِلَي قَبْر يُوْشَع عَلَيْه الْسَّلَام، قَالُوْا: فَدَعَت الْلَّه، فَقَام يُوْشَع مِن قَبْرِه فَقَال: أَقَامَت الْقِيَامَة؟ فَقَالَت: لَا، وَلَكِن هَذَا طَالُوْت يَسْأَلُك: هَل لَه مِن تَوْبَة؟ فَقَال: نَعَم: يَنْخَلِع مِن الْمُلْك وَيُذْهِب فَيُقَاتِل فِي سَبِيِل الْلَّه حَتَّى يُقْتَل. ثُم عَاد مَيْتَا.

فَتَرَك الْمَلِك لِدَاوُد عَلَيْه الْسَّلام، وَذَهَب وَمَعَه ثَلَاثَة عَشَر مِن أَوْلَادِه فَقَاتِلُوْا فِي سَبِيِل الْلَّه حَتَّى قَتَلُوَا، قَالُوْا: فَذَلِك قَوْلُه: (وَآَتَاه الْلَّه الْمُلْك وَالْحِكْمَة وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَاء). هَكَذَا رَوَاه ابْن جَرِيْر فِي تَارِيْخِه مِن طَرِيْق الْسُّدِّي بِإِسْنَادِه، وَفِي بَعْض هَذَا نَظَر، وَنَكَارَة وَالْلَّه أَعْلَم. وَقَال مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: النَّبِي الَّذِي بَعَث فَأَخْبَر طَالُوْت بِتَوْبَتِه هُو الْيَسَع بْن أَخُطُوب حَكَاه ابْن جَرِيْر أَيْضا.

وَذَكَر الْثَّعْلَبِي أَنَّهَا أَتَت بِه إِلَي قَبْر شُوَّيْل فَعَاتَبَه عَلَى مَا صَنَع بَعْدِه مِن الْأُمُوْر، وَهَذَا أَنْسَب، وَلَعَلَّه إِنَّمَا رَآَه فِي الْنَّوْم لَا أَنَّه قَام مِن الْقَبْر حَيّا، فَإِن هَذَا إِنَّمَا يَكُوْن مُعْجِزَة لِنَبِي، وَتِلْك امْرَأَة لَم تَكُن نَبِيَّة، وَالِه أَعْلَم. قَال ابْن جَرِيْر: وَزَعَم أَهْل الْتَّوْرَاة أَن مُدَّة مُلْك طَالُوْت إِلَي أَن قَتَل مَع أَوْلَادُه أَرْبَعُوْن سَنَة، فَاللَّه أَعْلَم.

يتبع انشاء الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالأحد أغسطس 07, 2011 11:56 pm


زَكَرْيَا عَلَيْه الْسَّلَام

نُبْذَة:

عَبْد صَالِح تَقِي أَخَذ يَدْعُو لِلْدِّيِن الْحَنِيْف، كَفَل مَرْيَم الْعَذَرَاء، دَعَا الْلَّه أَن يَرْزُقَه ذُرِّيَّة صَالِحَة فَوَهَب لَه يَحْيَى الَّذِي خَلَفَه فِي الْدَّعْوَة لِعِبَادَة الْلَّه الْوَاحِد الْقَهَّار.

سِيْرَتِه:

امْرَأَة عِمْرَان:

فِي ذَلِك الْعَصْر الْقَدِيْم.. كَان هُنَاك نَبِي.. وَعَالِم عَظِيْم يُصَلِّي بِالْنَّاس.. كَان اسْم الْنَّبِي زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام.. أَمَّا الْعَالَم الْعَظِيْم الَّذِي اخْتَارَه الْلَّه لِلِصَّلَاة بِالْنَّاس، فَكَان اسْمُه عِمْرَان عَلَيْه الْسَّلَام.

وَكَان لِعِمْرَان زَوْجَتُه لَا تَلِد.. وَذَات يَوْم رَأَت طَائِرا يُطْعِم ابْنَه الْطِّفْل فِي فَمِه وَيَسْقِيْه.. وَيَأْخُذُه تَحْت جَنَاحِه خَوْفَا عَلَيْه مِن الْبَرْد.. وَذَكَرَهَا هَذَا الْمَشْهَد بِنَفْسِهَا فَتَمَنَّت عَلَى الْلَّه أَن تَلِد.. وَرَفَعْت يَدَيْهَا وَرَاحَت تَدْعُو خَالِقِهَا أَن يَرْزُقَهَا بِطِفْل..

وَاسْتَجَاب لَهَا الْلَّه فَأَحَسَّت ذَات يَوْم أَنَّهَا حَامِل.. وَمِلْأَهَا الْفَرَح وَالْشُّكْر لِلَّه فَنَذَرْت مَا فِي بَطْنِهَا مُحَرَّرَا لِلَّه.. كَان مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا نَذَرَت لِلَّه أَن يَكُوْن ابْنَهَا خَادِمَا لِلْمَسْجِد طَوَال حَيَاتِه.. يَتَفَرَّغ لِعِبَادَة الْلَّه وَخِدْمَة بَيْتِه.

وِلَادَة مَرْيَم:

وَجَاء يَوْم الْوَضْع وَوُضِعَت زَوْجَة عِمْرَان بِنْتَا، وَفُوْجِئْت الْأُم! كَانَت تُرِيْد وَلَدا لِيَكُوْن فِي خِدْمَة الْمَسْجِد وَالْعِبَادَة، فَلَمَّا جَاء الْمَوْلُوْد أُنْثَى قَرَّرْت الْأُم أَن تَفِي بِنَذْرِهَا لِلَّه بِرَغْم أَن الْذَّكَر لَيْس كَالْأُنْثَى.

سَمِع الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى دُعَاء زَوْجَة عِمْرَان، وَالْلَّه يَسْمَع مَا نَقُوْلُه، وَمَا نَهْمُس بِه لِأَنْفُسِنَا، وَمَا نَتَمَنَّى أَن نَقُوْلَه وَلَا نَفْعَلَه..

يَسْمَع الْلَّه هَذَا كُلِّه وَيُعَرِّفُه.. سَمِع الْلَّه زَوْجَة عِمْرَان وَهِي تُخِبِرُه أَنَّهَا قَد وُضِعَت بِنْتَا، وَاللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَت، الْلَّه.. هُو وَحْدَه الَّذِي يُخْتَار نَوْع الْمَوْلُوْد فَيَخْلُقُه ذُكِرَا أَو يَخْلُقُه أُنْثَى..

سَمِع الْلَّه زَوْجَة عِمْرَان تَسْأَلُه أَن يَحْفَظ هَذِه الْفَتَاة الَّتِي سِمَتُهَا مَرْيَم، وَأَن يَحْفَظ ذُرِّيَّتَهَا مِن الْشَّيْطَان الْرَّجِيْم.

وَيَرْوِي الْإِمَام مُسْلِم فِي صَحِيْحِه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِى شَيْبَة حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى عَن مَعْمَر عَن الْزُّهْرِى عَن سَعِيْد عَن أَبِى هُرَيْرَة أَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: « مَا مِن مَوْلُوْد يُوْلَد إِلَا نَخَسَه الْشَّيْطَان فَيَسْتَهِل صَارِخَا مِن نَخْسَة الْشَّيْطَان إِلَا ابْن مَرْيَم وَأُمَّه ».

ثُم قَال أَبُو هُرَيْرَة اقْرَءُوْا إِن شِئْتُم: (وَإِنِّى أُعِيْذُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِن الْشَّيْطَان الْرَّجِيْم).

كَفَالَة زَكَرِيَّا لِمَرْيَم:

أَثَار مِيْلَاد مَرْيَم بِنْت عِمْرَان مُشْكِلَة صَغِيْرَة فِي بِدَايَة الْأَمْر.. كَان عِمْرَان قَد مَات قَبْل وَلَادَة مَرْيَم.. وَأَرَاد عُلَمَاء ذَلِك الْزَّمَان وَشُيُوخَه أَن يَرْبُوَا مَرْيَم.. كُل وَاحِد يَتَسَابَق لِنَيْل هَذَا الْشَّرَف.. أَن يُرَبِّي ابْنَة شَيْخُهُم الْجَلِيْل الْعَالَم وَصَاحِب صَلَاتِهِم وَإِمَامَهُم فِيْهَا.

قَال زَكَرِيَّا: أَكْفُلَهَا أَنَا.. هِي قَرِيْبَتِي.. زَوْجَتَي هِي خَالَتِهَا.. وَأَنَا نَبِي هَذِه الْأُمَّة وَأَوْلَاكُم بِهَا.
وَقَال الْعُلَمَاء وَالْشُّيُوخ: وَلِمَاذَا لَا يَكْفُلُهَا أَحَدُنَا..؟ لَا نَسْتَطِيْع أَن نَتْرُكُك تُحَصِّل عَلَى هَذَا الْفَضْل بِغَيْر اشْتَرَاكِنا فِيْه.

ثُم اتَّفَقُوْا عَلَى إِجْرَاء قُرْعَة. أَي وَاحِد يِكْسَب الْقُرْعَة هُو الَّذِي يَكْفُل مَرْيَم، وَيُرَبِّيَهَا، وَيَكُوْن لَه شَرَف خِدْمَتِهَا، حَتَّى تَكْبُر هِي وَهِي تَخْدِم الْمَسْجِد وَتَتَفَرَّغ لِعِبَادَة الْلَّه، وَأَجْرَيْت الْقُرْعَة..

وَضَعَت مَرْيَم وَهِي مَوْلُوْدَة عَلَى الْأَرْض، وَوُضِعَت إِلَى جُوَارِهَا أَقْلَام الَّذِيْن يَرْغَبُوْن فِي كِفَالَتَهَا، وَأَحْضِرُوا طِفْلَا صَغِيْرَا، فَأَخْرَج قَلَم زَكَرِيَّا..
قَال زَكَرِيَّا: حِكَم الْلَّه لِي بِأَن أَكْفُلَهَا.
قَال الْعُلَمَاء وَالْشُّيُوخ: لَا.. الْقُرْعَة ثَلَاث مَرَّات.

وَرَاحُوْا يُفَكِّرُوْن فِي الْقَرَعَة الْثَّانِيَة.. حَفَر كُل وَاحِد اسْمُه عَلَى قَلَم خَشَبِي، وَقَالُوْا: نُلْقِي بِأَقْلَامِنَا فِي الْنَّهْر.. مَن سَار قَلِمَه ضِد الْتَيّار وَحْدَه فَهُو الْغَالِب.

وَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُم فِي الْنَّهْر، فَسَارَت أَقْلَامَهُم جَمِيْعَا مَع الْتَيِار مَا عَدَا قَلَم زَكَرِيَّا.. سَار وَحْدَه ضِد الْتَيّار.. وَظَن زَكَرِيَّا أَنَّهُم سيَقْتَنَعُون، لَكِنَّهُم أَصَرُّوا عَلَى أَن تَكُوْن الْقُرْعَة ثَلَاث مَرَّات.

قَالُوْا: نُلْقِي أَقْلَامُنَا فِي الْنَّهْر.. الْقْلُم الَّذِي يَسِيْر مَع الْتَيِار وَحْدَه يَأْخُذ مَرْيَم. وَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُم فَسَارَت جَمِيْعا ضِد الْتَيّار مَا عَدَا قَلَم زَكَرِيَّا. وَسَلِّمُوْا لِزَكَرِيَّا، وَأَعْطُوْه مَرْيَم لِيَكَفَلَهَا.. وَبَدَأ زَكَرِيَّا يَخْدِم مَرْيَم، وَيُرَبِّيَهَا وَيُكْرِمَهَا حَتَّى كَبُرَت..

كَان لَهَا مَكَان خَاص تَعِيْش فِيْه فِي الْمَسْجِد.. كَان لَهَا مِحْرَاب تَتَعَبَّد فِيْه.. وَكَانَت لَا تُغَادِر مَكَانَهَا إِلَا قَلِيْلا.. يَذْهَب وَقْتِهَا كُلِّه فِي الصَّلَاة وَالْعِبَادَة.. وَالْذِّكْر وَالْشُّكْر وَالْحُب لِلَّه..

وَكَان زَكَرِيَّا يَزُوْرُهَا أَحْيَانَا فِي الْمِحْرَاب.. وَكَان يُفَاجَأَه كُلَّمَا دَخَل عَلَيْهَا أَنَّه أَمَام شَيْء مُدْهِش.. يَكُوْن الْوَقْت صَيْفَا فَيَجِد عِنْدَهَا فَاكِهَة الْشِّتَاء.. وَيَكُوْن الْوَقْت شِتَاء فَيَجِد عِنْدَهَا فَاكِهَة الْصَّيْف.
وَيَسْأَلُهُا زَكَرِيَّا مِن أَيْن جَاءَهَا هَذَا الْرِّزْق..؟
فَتُجِيْب مَرْيَم: إِنَّه مِن عِنْد الْلَّه..
وَتُكَرَّر هَذَا الْمَشْهَد أَكْثَر مِن مَرَّة.

دُعَاء زَكَرِيَّا رَبَّه:

كَان زَكَرِيَّا شَيْخا عَجُوْزا ضَعُف عَظَّمَه، وَاشْتَعَل رَأْسِه بِالْشِّعْر الْأَبْيَض، وَأُحِس أَنَّه لَن يَعِيْش طَوِيْلَا.. وَكَانَت زَوْجَتُه وَهِي خَالَة مَرْيَم عَجُوْزا مِّثْلِه وَلَم تَلِد مِن قَبْل فِي حَيَاتِهَا لِأَنَّهَا عَاقِر..

وَكَان زَكَرِيَّا يَتَمَنَّى أَن يَكُوْن لَه وَلَد يَرِث عِلْمِه وَيَصِيْر نَبِيّا وَيَسْتَطِيْع أَن يَهْدِي قَوْمِه وَيَدْعُوَهُم إِلَى كِتَاب الْلَّه وَمَغْفِرَتِه.. وَكَان زَكَرِيَّا لَا يَقُوْل أَفْكَارَه هَذِه لِأَحَد.. حَتَّى لِزَوْجَتِه.. وَلَكِن الْلَّه تَعَالَى كَان يَعْرِفُهَا قَبْل أَن تُقَال..

وَدَخَل زَكَرِيَّا ذَلِك الْصَّبَاح عَلَى مَرْيَم فِي الْمِحْرَاب.. فَوَجَد عِنْدَهَا فَاكِهَة لَيْس هَذَا أَوَانِهَا.
سَأَلَهَا زَكَرِيَّا: (قَال يَا مَرْيَم أَنَّى لَك هـذَا)؟!
مَرْيَم: (قَالَت هُو مِن عِنْد الْلَّه إِن الْلَّه يَرْزُق مَن يَشَاء بِغَيْر حِسَاب).

قَال زَكَرِيَّا فِي نَفْسِه: سُبْحَان الْلَّه.. قَادِر عَلَى كُل شَيْء.. وَغَرَس الْحَنِيْن أَعْلَامَه فِي قَلْبِه وَتَمَنَّى الذُّرِّيَّة.. فَدَعَا رَبَّه.

سَأَل زَكَرِيَّا خَالِقِه بِغَيْر أَن يُرْفَع صَوْتَه أَن يَرْزُقْه طِفْلَا يَرِث الْنُّبُوَّة وَالْحِكْمَة وَالْفَضْل وَالْعِلْم.. وَكَان زَكَرِيَّا خَائِفَا أَن يَضِل الْقَوْم مِن بَعْدِه وَلَم يَبْعَث فِيْهِم نَبِي.. فَرَحِم الْلَّه تَعَالَى زَكَرِيَّا وَاسْتَجَاب لَه.

فَلَم يَكَد زَكَرِيَّا يَهْمِس فِي قَلْبِه بِدُعَائِه لِلَّه حَتَّى نَادَتْه الْمَلَائِكَة وَهُو قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُك بِغُلَام اسْمُه يَحْيَى لَم نَجْعَل لَّه مِن قَبْل سَمِيا).

فُوْجِئ زَكَرِيَّا بِهَذِه الْبُشْرَى.. أَن يَكُوْن لَه وَلَد لَا شَبِيْه لَه أَو مَثِيْل مِن قَبْل.. أَحَس زَكَرِيَّا مِن فَرْط الْفَرَح بِاضْطِرَاب.. تُسَائِل مِن مَوْضِع الدَّهْشَة: (قَال رَب أَنَّى يَكُوْن لِي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتِي عَاقِرا وَقَد بَلَغْت مِن الْكِبَر عِتِيا) أَدْهَشَه أَن يُنْجِب وَهُو عَجُوَز وَامْرَأَتُه لَا تَلِد..

(قَال كَذَلِك قَال رَبُّك هُو عَلَي هَيِّن وَقَد خَلَقْتُك مِن قَبْل وَلَم تَك شَيْئا) أَفْهَمْتُه الْمَلَائِكَة أَن هَذِه مَشِيْئَة الْلَّه وَلَيْس أَمَام مَشِيْئَة الْلَّه إِلَا الْنَّفَاذ.. وَلَيْس هُنَاك شَيْء يَصْعُب عَلَى الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى.. كُل شَيْء يُرِيْدُه يَأْمُرُه بِالْوُجُوْد فَيُوْجَد.. وَقَد خَلَق الْلَّه زَكَرِيَّا نَفْسِه مِن قَبْل وَلَم يَكُن لَه وُجُوْد.. وَكُل شَيْء يَخْلُقُه الْلَّه تَعَالَى بِمُجَرَّد الْمَشِيْئَة (إِنَّمَا أَمْرُه إِذَا أَرَاد شَيْئا أَن يَقُوْل لَه كُن فَيَكُوْن).

امْتَلَأ قَلْب زَكَرِيَّا بِالْشُّكْر لِلَّه وَحَمْدُه وَتَمْجِيْدِه.. وَسَأَل رَبِّه أَن يَجْعَل لَه آَيَة أَو عَلَامَة. فَأَخْبَرَه الْلَّه أَنَّه سَتَجِيء عَلَيْه ثَلَاثَة أَيَّام لَا يَسْتَطِيْع فِيْهَا الْنُّطْق.. سَيَجِد نَفْسِه غَيْر قَادِر عَلَى الْكَلَام.. سَيَكُوْن صَحِيْح الْمِزَاج غَيْر مُعْتَل.. إِذَا حَدَّث لَه هَذَا أَيْقَن أَن امْرَأَتَه حَامِل، وَأَن مُعْجِزَة الْلَّه قَد تَحَقَّقَت.. وَعَلَيْه سَاعَتَهَا أَن يَتَحْدُث إِلَى الْنَّاس عَن طَرِيْق الْإِشَارَة.. وَأَن يُسَبِّح الْلَّه كَثِيْرَا فِي الْصَّبَاح وَالْمَسَاء..

وَخَرَج زَكَرِيَّا يَوْما عَلَى الْنَّاس وَقَلْبِه مَلِيْء بِالْشُّكْر.. وَأَرَاد أَن يُكَلِّمَهُم فَاكْتَشَف أَن لِسَانَه لَا يَنْطِق.. وَعَرَف أَن مُعْجِزَة الْلَّه قَد تَحَقَّقَت.. فَأَوْمَأ إِلَى قَوْمِه أَن يُسَبِّحُوْا الْلَّه فِي الْفَجْر وَالْعِشَاء.. وَرَاح هُو يَسْبَح الْلَّه فِي قَلْبِه.. صَلَّى لِلَّه شُكْرَا عَلَى اسْتِجَابَتَه لِدَعْوَتِه وَمَنَحَه يُحْيِي..

ظَل زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام يَدَعُوْا إِلَى رَبِّه حَتَّى جَاءَت وَفَاتِه. وَلَم تُرِد رِوَايَات صَحِيْحَة عَن وَفَاتِه عَلَيْه الْسَّلَام. لَكِن رِوَايَات كَثِيْرَة -ضَعِيْفَة- أَوْرَدْت قَتْلِه عَلَى يَد جُنُوْد الْمُلْك الَّذِي قُتِل يَحْيَى مِن قَبْل.

يتبع انشاء الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالإثنين أغسطس 08, 2011 12:01 am


انْبِيَاء اهْل الْقَرْيَة

نُبْذَة:

أَرْسَل الْلَّه رَسُوْلَيْن لَّإِحْدَى الْقُرَى لَكِن أَهْلَا كَذَّبُوهُما، فَأَرْسَل الْلَّه تَعَالَى رَسُوْلَا ثَالِثا يُصَدِّقَهُمَا. وَلَا يَذْكُر وَيُذَكِّر لَنَا الْقُرْآَن الْكَرِيْم قِصَّة رَجُل آَمَن بِهِم وَدَعَى قَوْمِه لِلْإِيْمَان بِمَا جَاؤُوْا بِهِن لَكِنَّهُم قَتَلُوْه، فَأَدْخَلَه الْلَّه الْجَنَّة.

سِيْرَتِهِم:

يَحْكِي الْحَق تَبَارَك وَتَعَالَى قِصَّة أَنْبِيَاء ثَلَاثَة بِغَيْر أَن يُذْكَر أَسْمَائِهِم. كُل مَا يَذْكُرُه السِّيَاق أَن الْقَوْم كَذَّبُوُا رَسُوْلَيْن فَأَرْسَل الْلَّه ثَالِثا يُعَزْرْهُما. وَلَم يَذْكُر الْقُرْآَن مِن هَم أَصْحَاب الْقَرْيَة وَلَا مَا هِي الْقَرْيَة.

وَقَد اخْتَلَفَت فِيْهَا الرِّوَايَات. وَعَدَم إِفْصَاح الْقُرْآَن عَنْهَا دَلِيْل عَلَى أَن تَحْدِيْد اسْمُهَا أَو مَوْضِعُهَا لَا يَزِيْد شَيْئا فِي دَلَالَة الْقِصَّة وَإِيحَائِهَا. لَكِن الْنَّاس ظَلُّوْا عَلَى إِنْكَارُهُم لِلْرُّسُل وَتَكْذِيْبِهِم، وَقَالُوْا (قَالُوْا مَا أَنْتُم إِلَا بَشَر مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَل الْرَّحْمَن مِن شَيْء إِن أَنْتُم إِلَا تَكْذِبُوْن).

وَهَذَا الِاعْتِرَاض الْمُتَكَرِّر عَلَى بَشَرِيَّة الْرُّسُل تَبْدُو فِيْه سَذَاجَة الْتَّصَوُّر وَالْإِدْرَاك, كَمَا يَبْدُو فِيْه الْجَهْل بِوَظِيفَة الْرَّسُوْل. قَد كَانُوْا يَتَوَقَّعُون دَائِمَا أَن يَكُوْن هُنَاك سَر غَامِض فِي شَخْصِيَّة الْرَّسُوْل وَحَيَاتِه تَكْمُن وَرَاءَه الْأَوْهَام وَالْأَسَاطِيْر..

أَلَيْس رَسُوْل الْسَّمَاء إِلَى الْأَرْض فَكَيْف يَكُوْن شَخْصِيَّة مَكْشُوْفَة بَسِيْطَة لَا أَسْرَار فِيْهَا وَلَا أَلْغَاز حَوْلَهَا ?! شَخْصِيَّة بَشَرِيَّة عَادِيّة مِن الْشَّخْصِيَّات الَّتِي تَمْتَلِىء بِهَا الْأَسْوَاق وَالْبُيُوْت ?!

وَهَذِه هِي سَذَاجَة الْتَّصَوُّر وَالْتَّفْكِيْر. فَالأَسْرَار وَالْأَلْغَاز لَيْسَت صِفَة مُلَازِمَة لِلْنُّبُوَّة وَالْرِّسَالَة. فَالَرِّسَالَة مَنْهَج إِلَهِي تَعِيْشُه الْبَشَرِيَّة. وَحَيَاة الْرَّسُوْل هِي الْنَّمُوْذَج الْوَاقِعِي لِلْحَيَاة وُفِّق ذَلِك الْمَنْهَج الْإِلَهِي.

الْنَّمُوْذَج الَّذِي يَدْعُو قَوْمَه إِلَى الاقْتِدَاء بِه. وَهُم بِشَر. فَلَا بُد أَن يَكُوْن رَسُوْلُهُم مِن الْبَشَر لِيُحَقِّق نَمُوْذَجَا مَن الْحَيَاة يَمْلِكُوْن هُم أَن يُقَلِّدُوه.

وَفِي ثِقَة الْمُطْمَئِن إِلَى صِدْقُه, الْعَارِف بِحُدُود وَظِيْفَتَه أَجَابَهُم الْرُّسُل: إِن الْلَّه يَعْلَم، وَهَذَا يَكْفِي. وَإِن وَظِيْفَة الْرُّسُل الْبَلَاغ. وَقَد أَدَّوْه. وَالْنَّاس بَعْد ذَلِك أَحْرَار فِيْمَا يَتَّخِذُوْن لِأَنْفُسِهِم مِن تَصَرُّف.

وَفِيْمَا يَحْمِلُوْن فِي تَصَرُّفِهِم مِن أَوْزَار. وَالْأَمْر بَيْن الْرُّسُل وَبَيْن الْنَّاس هُو أَمْر ذَلِك الْتَّبْلِيْغ عَن الْلَّه; فَمَتَى تَحَقَّق ذَلِك فَالأَمْر كُلُّه بَعْد ذَلِك إِلَى الْلَّه.

وَلَكِن الْمُكَذِّبِيْن الْضَّالِّيْن لَا يَأْخُذُوْن الْأُمُور هَذَا الْمَأْخَذ الْوَاضِح الْسَّهْل الْيَسِيْر; وَلَا يُطِيْقُوْن وُجُوْد الْدُّعَاة إِلَى الْهُدَى وَيَعْمِدُون إِلَى الْأُسْلُوب الْغَلِيظ الْعَنِيْف فِي مُقَاوَمَة الْحُجَّة لِأَن الْبَاطِل ضَيْق الْصَّدْر.

قَالُوْا: إِنَّنَا نْتَشاءَم مِنْكُم; وَنَتَوَقَّع الْشَّر فِي دَعَوْتُكُم; فَإِن لَم تَنْتَهُوْا عَنْهَا فَإِنَّنَا لَن نَسْكُت عَلَيْكُم, وَلَن نَدَعُكُم فِي دَعَوْتُكُم: (لَنَرْجُمَنَّكُم وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَاب أَلِيْم). هَكَذَا أَسْفَر الْبَاطِل عَن غَشْمُه; وَأَطْلِق عَلَى الْهُدَاة تَهْدِيْدِه; وَبَغَى فِي وَجْه كَلِمَة الْحَق الْهَادِئَة!

وَلَكِن الْوَاجِب الْمُلْقَى عَلَى عَاتِق الْرُّسُل يَقْضِي عَلَيْهِم بِالْمُضِي فِي الْطَّرِيْق: (قَالُوْا طَائِرُكُم مَعَكُم). فَالْقَوْل بِالتَشَاؤُم مِن دَعْوَة أَو مِن وَجَه هُو خُرَافَة مِن خُرَافَات الْجَاهِلِيَّة.

وَالْرُّسُل يُبَيِّنُون لِقَوْمِهِم أَنَّهَا خِرَافَة; وَأَن حَظُّهُم وَنَصِيْبُهُم مِن خَيْر وَمِن شَر لَا يَأْتِيَهِم مِّن خَارِج نُفُوْسِهِم. إِنَّمَا هُو مَعَهُم. مُرْتَبِط بِنَوَايَاهُم وَأَعْمَالَهُم, مُتَوَقِّف عَلَى كَسْبِهِم وَعَمَلِهِم.

وَفِي وَسِعَهُم أَن يَجْعَلُوْا حَظُّهُم وَنَصِيْبُهُم خَيِّرَا أَو أَن يَجْعَلُوْه شَرّا. فَإِن إِرَادَة الْلَّه بِالْعَبْد تَنْفَذ مِن خِلَال نَفْسِه, وَمِن خِلَال اتِّجَاهِه, وَمِن خِلَال عَمَلِه. وَهُو يَحْمِل طَائِرَه مَعَه. هَذِه هِي الْحَقِيقَة الثَّابِتَة الْقَائِمَة عَلَى أَسَاس صَحِيْح. أَمَّا الْتَّشَاؤُم بِالْأَمْكِنَة أَو الْتَّشَاؤُم بِالْوُجُوْه أَو الْتَّشَاؤُم بِالْكَلِمَات، فَهُو خِرَافَة لَا تَسْتَقِيْم عَلَى أَصْل!

وَقَالُوْا لَهُم: (أَئِن ذُكِّرْتُم) أُتَرْجُمُونَنا وَتُعَذِّبُونَنا لِأَنَّنَا نُذَكّرَكُم! أَفَهَذَا جَزَاء التَّذْكِيْر? (بَل أَنْتُم قَوْم مُّسْرِفُوْن) تَتَجَاوَزُوْن الْحُدُوْد فِي الْتَّفْكِيْر وَالْتَّقْدِيْر; وَتُجَازَوْن عَلَى الْمَوْعِظَة بِالْتَّهْدِيْد وَالْوَعِيْد; وَتَرُدُّون عَلَى الْدَّعْوَة بِالْرَّجْم وَالتَّعْذِيْب!

مَا كَان مِن الْرَّجُل الْمُؤْمِن:

لَا يَقُوْل لَنَا السِّيَاق مَاذَا كَان مِن أَمْر هَؤُلَاء الْأَنْبِيَاء، إِنَّمَا يُذَكَّر مَا كَان مِن أَمْر إِنْسَان آَمَن بِهِم. آَمَن بِهِم وَحْدَه.. وَوَقَف بِإِيْمَانِه أَقَلِّيَّة ضَعِيْفَة ضِد أَغْلَبِيَّة كَافِرَة.

إِنْسَان جَاء مِن أَقْصَى الْمَدِيْنَة يَسْعَى. جَاء وَقَد تُفْتَح قَلْبِه لِدَعْوَة الْحَق.. فَهَذَا رَجُل سَمِع الْدَّعْوَة فَاسْتَجَاب لَهَا بَعْد مَا رَأَى فِيْهَا مِن دَلَائِل الْحَق وَالْمَنْطِق.

وَحِيْنَمَا اسْتَشْعَر قَلْبِه حَقِيْقَة الْإِيْمَان تَحَرَّكَت هَذِه الْحَقِيْقَة فِي ضَمِيْرِه فَلَم يُطِق عَلَيْهَا سُكُوْتِا; وَلَم يَقْبَع فِي دَارِه بِعَقِيْدَتِه وَهُو يَرَى الْضَّلال مِن حَوْلَه وَالْجُحُوْد وَالْفُجُور; وَلَكِنَّه سَعَى بِالْحَق الَّذِي آَمَن بِه.

سَعَى بِه إِلَى قَوْمِه وَهُم يُكَذِّبُوْن وَيَجْحَدُوْن وَيَتَوَعَّدُون وَيُهَدَّدُون. وَجَاء مِن أَقْصَى الْمَدِيْنَة يَسْعَى لِيَقُوْم بِوَاجِبِه فِي دَعْوَة قَوْمِه إِلَى الْحَق, وَفِي كَفَهِم عَن الْبَغْي, وَفِي مُقَاوِمَة اعْتِدَائِهُم الْأَثِيم الَّذِي يُوْشِكُوْن أَن يَصَبُوه عَلَى الْمُرْسَلِيْن.

وَيَبْدُو أَن الْرَّجُل لَم يَكُن ذَا جَاه وَلَا سُلْطَان. وَلَم تَكُن لَه عَشِيْرَة تُدَافِع عَنْه إِن وَقَع لَه أَذَى. وَلَكِنَّهَا الْعَقِيْدَة الْحَيَّة فِي ضَمِيْرِه تَدْفَعُه وَتَجِيْء بِه مِن أَقْصَى الْمَدِيْنَة إِلَى أَقْصَاهَا.

فَقَال لَهُم: اتَّبِعُوْا هَؤُلَاء الْرُسُل، فَإِن الَّذِي يَدْعُو مِثْل هَذِه الْدَّعْوَة, وَهُو لَا يَطْلُب أَجْرَا, وَلَا يَبْتَغِي مَغْنَمَا. إِنَّه لَصَادِق. وَإِلّا فَمَا الَّذِي يَحْمِلُه عَلَى هَذَا الْعَنَاء إِن لَم يَكُن يُلَبِّي تَكْلِيْفَا مِن الْلَّه? مَا الَّذِي يَدْفَعُه إِلَى حَمْل هُم الْدَّعْوَة? وَمُجَابَهَة الْنَّاس بِغَيْر مَا أَلِفُوْا مِن الْعَقِيدَة?

وَالْتَّعَرُّض لِأَذَاهُم وَشَرَّهُم وَاسْتِهْزَائِهِم وَتَنَكَيلَهُم, وَهُو لَا يَجْنِي مِن ذَلِك كَسْبَا, وَلَا يَطْلُب مِنْهُم أَجْرَا? وَهَدَاهُم وَاضِح فِي طَبِيْعَة دَعَوْتُهُم. فَهُم يَدَعُوْن إِلَى إِلَه وَاحِد. وَيُدْعَوْن إِلَى نَهْج وَاضِح. وَيُدْعَوْن إِلَى عَقِيْدَة لَا خِرَافَة فِيْهَا وَلَا غُمُوْض.

فَهُم مُهْتَدُوْن إِلَى نَهْج سَلِيْم, وَإِلَى طَرِيْق مُّسْتَقِيْم.
ثُم عَاد يَتَحْدُث إِلَيْهِم عَن نَّفْسِه هُو وَعَن أَسْبَاب إِيْمَانِه, وَيُنَاشِد فِيْهِم الْفِطْرَة الَّتِي اسْتَيْقَظْت فِيْه فَاقْتَنَعْت بِالْبُرْهَان الْفُطْرِي السَّلِيْم.

فَلَقَد تُسَائِل مَع نَفْسِه قَبْل إِئْمَانَه، لِمَاذَا لَا أَعْبُد الَّذِي فَطَرَنِي؟ وَالَّذِي إِلَيْه الْمَرْجِع وَالْمَصِيْر? وَمَا الَّذِي يَحِيْد بِي عَن هَذَا الْنَّهْج الْطَّبِيْعِي الَّذِي يَخْطِر عَلَى الْنَّفْس أُوُل مَا يَخْطُر? إِن الْفِطْر مَجْذُوْبَة إِلَى الَّذِي فَطَرَهَا, تَتَّجِه إِلَيْه أَوَّل مَا تَتَّجِه, فَلَا تَنْحَرِف عَنْه إِلَّا بِدَافِع آَخَر خَارِج عَلَى فِطْرَتِهَا.

وَالتَّوَجُّه إِلَى الْخَالِق هُو الْأَوْلَى.
ثُم يُبَيِّن ضَلَال الْمَنْهَج الْمُعَاكِس. مُهَج مَن يَعْبُد آَلِهَة غَيْر الْرَّحْمَن لَا تَضُر وَلَا تَنْفَع. وَهَل أَضَل مِمَّن يَدَع مَنْطِق الْفِطْرَة الَّذِي يَدْعُو الْمَخْلُوْق إِلَى عِبَادَة خَالِقِه, وَيَنْحَرِف إِلَى عِبَادَة غَيْر الْخَالِق بِدُوْن ضَرُوْرَة وَلَا دَافِع?

وَهَل أَضَل مِمَّن يَنْحَرِف عَن الْخَالِق إِلَى آَلِهَة ضِعَاف لَا يَحْمُوْنَه وَلَا يَدْفَعُوْن عَنْه الْضُّر حِيْن يُرِيْد بِه خَالِقُه الْضُّر بِسَبَب انْحِرَافِه وَضَلَالِه?
وَالْآن وَقَد تُحُدِّث الْرَّجُل بِلِسَان الْفِطْرَة الْصَّادِقَة الْعَارِفَة الْوَاضِحَة يُقَرِّر قَرَارُه الْأَخِير فِي وَجْه قَوْمِه الْمُكَذِّبِيْن الْمُهَدَّدِين الْمُتَوَعِّدِين.

لِأَن صَوْت الْفِطْرَة فِي قَلْبِه أَقْوَى مِن كُل تَهْدِيْد وَمِن كُل تَكْذِيْب: (إِنِّي آَمَنْت بِرَبِّكُم فَاسْمَعُوْن) هَكَذَا أَلْقَى بِكَلِمَة الْإِيْمَان الْوَاثِقَة الْمُطْمَئِنَّة. وَأَشْهَدَهُم عَلَيْهَا. وَهُو يُوْحِي إِلَيْهِم أَن يَقُوْلُوْهَا كَمَا قَالَهَا. أَو أَنَّه لَا يُبَالِي بِهِم مَاذَا يَقُوْلُوْن!

اسْتِشْهَاد الْرَّجُل وَدُخُوْلِه الْجَنَّة:

وَيُوَحِّي سِيَاق الْقِصَّة بَعْد ذَلِك الْقَوْم الْكَافِرِيْن قَتَلُوَا الْرَّجُل الْمُؤْمِن. وَإِن كَان لَا يَذْكُر شَيْئا مِن هَذَا صَرَاحَة. إِنَّمَا يُسْدِل الْسِّتَار عَلَى الْدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا, وَعَلَى الْقَوْم وَمَا هُم فِيْه; وَيَرْفَعُه لِنَرَى هَذَا الْشَّهِيْد الَّذِي جَهَر بِكَلِمَة الْحَق, مُتَّبِعا صَوْت الْفِطْرَة, وَقَذَف بِهَا فِي وُجُوْه مَن يَمْلِكُوْن الْتَّهْدِيْد وَالْتَّنْكِيْل.

نَرَاه فِي الْعَالَم الْآَخِر. وَنَطَّلِع عَلَى مَا ادَّخَر الْلَّه لَه مِن كَرَامَة. تَلِيْق بِمَقَام الْمُؤْمِن الْشُّجَاع الْمُخَلِّص الْشَّهِيْد: (قِيَل ادْخُل الْجَنَّة قَال يَا لَيْت قَوْمِي يَعْلَمُوْن .. بِمَا غَفَر لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِن الْمُكْرَمِيْن).

وَتَتَّصِل الْحَيَاة الْدُّنْيَا بِالْحَيَاة الْآَخِرَة. وَنَرَى الْمَوْت نَقْلَة مِن عَالَم الْفَنَاء إِلَى عَالِم الْبَقَاء. وَخَطْوَة يُخَلِّص بِهَا الْمُؤْمِن مِن ضِيْق الْأَرْض إِلَى سَعَة الْجَنَّة. وَمَن تَطَاوَل الْبَاطِل إِلَى طُمَأْنِيْنَة الْحَق. وَمَن تَهْدِيْد الْبَغْي إِلَى سَلَام الْنَّعِيم. وَمِن ظُلُمَات الْجَاهِلِيَّة إِلَى نُوْر الْيَقِيْن.

وَنَرَى الْرَّجُل الْمُؤْمِن. وَقَد اطَّلَع عَلَى مَا آَتَاه الْلَّه فِي الْجَنَّة مِن الْمَغْفِرَة وَالْكَرَامَة, يُذْكَر قَوْمِه طَيِّب الْقَلْب رَضِي الْنَّفْس, يَتَمَنَّى لَو يَرَاه قَوْمِه وَيَرَوْن مَا آَتَاه رَبَّه مَن الْرِّضَى وَالْكَرَامَة, لِيَعْرِفُوْا الْحَق, مَعْرِفَة الْيَقِيْن.

إِهْلَاك أَصْحَاب الْقَرْيَة بِالْصَّيْحَة:

هَذَا كَان جَزَاء الْإِيْمَان. فَأَمَّا الطُّغْيَان فَكَان أَهْوَن عَلَى الْلَّه مِن أَن يُرْسَل عَلَيْه الْمَلَائِكَة لتُدَمْرِه. فَهُو ضَعِيْف ضَعِيْف: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِن بَعْدِه مِن جُنْد مِّن الْسَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنْزِلِيْن .. إِن كَانَت إِلَا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذَا هُم خَامِدُون).

لَا يُطِيْل هُنَا فِي وَصْف مَصْرَع الْقَوْم, تَهْوِيَنَّا لِشَأْنِهِم, وَتَصْغِيرَا لِقَدْرِهِم. فَمَا كَانَت إِلَا صَيْحَة وَاحِدَة أُخْمِدَت أَنْفَاسِهِم. وَيُسْدَل السِّتَار عَلَى مَشْهَدَهُم الْبَائِس الْمُهِيْن الْذَّلِيْل!

تَجَاوَز السِّيَاق أَسْمَاء الْأَنْبِيَاء وَقَصَصَهُم لِيُبْرِز قِصَّة رَجُل آَمَن.. لَم يُذْكَر لَنَا السِّيَاق اسْمُه. اسْمُه لَا يُهِم.. الْمُهِم مَا وَقَع لَه.. لَقَد آَمَن بِأَنْبِيَاء الْلَّه.. قِيَل لَه ادْخُل الْجَنَّة. لِيَكُن مَا كَان مِن أَمْر تَعْذِيْبُه وَقَتَلَه. لَيْس هَذَا فِي الْحِسَاب الْنِّهَائِي شَيْئا لَه قِيْمَتَه. تَكْمُن الْقَيِّمَة فِي دُخُوْلِه فَوْر إِعْلانُه أَنَّه آَمَن.

ستيع انشاء الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالإثنين أغسطس 08, 2011 12:05 am

الْيَسَع عليه السلام

نُبْذَة:

مِن الْعَبَدَة الْأَخْيَار وَرَد ذِكْرُه فِي الْتَّوْرَاة كَمَا ذُكِر فِي الْقُرْآَن مَرَّتَيْن ، وَيُذْكَر أَنَّه أَقَام مِن الْمَوْت إِنْسَانا كَمُعْجِزَة.

سِيْرَتِه:

مِن أَنْبِيَاء الْلَّه تَعَالَى، الَّذِيْن يُذْكَر الْحَق أَسْمَائِهِم وَيُثْنِي عَلَيْهِم، وَلَا يَحْكِي قَصَصِهِم.. نَبِي الْلَّه تَعَالَى الْيَسَع.

قَال تَعَالَى فِي سُوْرَة (ص): وَاذْكُر إِسْمَاعِيْل وَالْيَسَع وَذَا الْكِفْل وَكُل مِّن الْأَخْيَار وَقَال جَل جَلَالِه فِي سُوْرَة (الْأَنْعَام) : وَإِسْمَاعِيْل وَالْيَسَع وَيُوْنُس وَلُوْطا وَكُلْا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِيْن..

جَاء فِي تَارِيْخ الْطَّبَرِي حَوْل ذَكَر نِسْبَة أَنَّه الْيَسَع بْن أَخُطُوب وَيُقَال أَنَّه ابْن عَم إِلْيَاس الْنَّبِي عَلَيْهِمَا الْسَّلام..

وَذَكَر الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر نِسْبَة عَلَى الْوَجْه الْآتِي: اسْمُه أَسْبَاط بْن عَدِي بْن شُوَتَّلَم بْن أَفْرَائِيم بْن يُوَسُف الْصِّدِّيق عَلَيْه الْسَّلَام وَهُو مِن أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيْل، وَقَد أَوْجَز الْقُرْآَن الْكَرِيْم عَن حَيَاتِه فَلَم يَذْكُر عَنْهَا شَيْئا وَإِنَّمَا اكْتَفَى بَعْدَه فِي مَجْمُوْعَة الْرُّسُل الْكِرَام الَّذِي يَجِب الْإِيْمَان بِهِم تَفْصِيلَا.

قَام بِتَبْلِيْغ الْدَّعْوَة بَعْد انْتِقَال إِلْيَاس إِلَى جُوَار الْلَّه فَقَام يَدْعُو إِلَى الْلَّه مُسْتَمْسِكَا بِمِنْهَاج نَبِي الْلَّه إِلْيَاس وَشَرِيْعَتِه وَقَد كَثُرَت فِي زَمَانِه الْأَحْدَاث وَالْخَطَايَا وَكَثُر الْمُلُوْك الْجَبَابِرَة فَقَتَلُوْا الْأَنْبِيَاء وَشَرَّدُوْا الْمُؤْمِنِيْن فَوَعَظَهُم الْيَسَع وَخَوْفِهِم مِن عَذَاب الْلَّه وَلَكِنَّهُم لَم يَأْبَهُوْا بِدَعْوَتِه ثُم تَوَفَّاه الْلَّه وَسَلَط عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْل مِن يَسُوْمُهُم سُوَء الْعَذَاب كَمَا قَص عَلَيْنَا الْقُرْآَن الْكَرِيْم.

وَيَذْكُر بَعْض الْمُؤَرِّخِيْن أَن دَعَوْتُه فِي مَدِيْنَة تَسْعَى بَانْيَاس إِحْدَى مُدُن الْشَّام، وَلَا تَزَال حَتَّى الْآَن مَوْجُوْدَة وَهِي قَرِيْبَة مِن بَلْدَة اللَاذِقِيَّة وَالْلَّه أَعْلَم.

وَأَرْجَح الْأَقْوَال أَن الْيَسَع هُو الِيْشَع الَّذِي تَتَحَدَّث عَنْه الْتَّوْرَاة.. وَيُذْكَر الْقِدِّيس بَرْنَابَا أَنَّه أَقَام مِن الْمَوْت إِنْسَانا كَمُعْجِزَة.

يتبع انشاء الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حلبى
المشرفين على المنتدى
المشرفين على المنتدى
محمد حلبى


الإشتراك : 16/04/2009
المساهمات : 1827
الـعـمـر : 71
الإقامة : العصافرة بحري _ الاسكندرية
اللاعب المفضل : ابو تريكه
ناديك المفضل : عاشق الاهلي
نقاط التميز نقاط التميز : 1030

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء   الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Emptyالإثنين أغسطس 08, 2011 12:12 am

خَاتَمُ الْنَّبِيِّيْنَ

مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

نُبْذَةً:

الْنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، مِنْ بَنِيَّ هَاشِمٍ، وُلِدَ فِيْ مَكَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيْهِ عَبْدِ الْلَّهِ بِأَشْهُرٍ قَلِيْلَةٍ، تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آَمِنَةُ وَهُوَ لَا يَزَالُ طِفْلَا، كَفَلِهِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ عَمِّهِ أَبُوْ طَالِبَ، وَرَعَى الْغَنَمَ لِزَمَنٍ، تَزَوَّجَ مِنْ الْسَّيِّدَةِ خَدِيْجَةِ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَهُوَ فِيْ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِيْنَ مِنْ عُمْرِهِ، دَعَا الْنَّاسَ إِلَىَ الْإِسْلَامِ أَيْ إِلَىَ الإِيْمَانِ بِالْلَّهِ الْوَاحِدِ وَرَسُوْلِهِ، بَدَأَ دَعْوَتَهُ فِيْ مَكَّةَ فَاضَطَهَدَهُ أَهْلُهَا فَهَاجَرَ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ حَيْثُ اجْتَمَعَ حَوْلَهُ عَدَدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَامَ 622 مْ فَأَصْبَحَتْ هَذِهِ الْسَّنَةُ بَدَءَ الْتَّارِيْخِ الْهِجْرِيِّ، تُوُفِّيَ بَعْدَ أَنْ حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ.

سِيْرَتِهِ:

بِهَذَا الْنَّبِيّ الْكَرِيمْ خَتَمَ الْلَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىْ سِلْسِلَةُ هِدَايَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ.

صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْكَ يَا حَبِيْبِىْ يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ

مُحَمَّدٍ (صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

فِيْ غَرْبِ الْجَزِيْرَةَ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِيْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وُلِدْتُ (آَمِنَةً بِنْتِ وَهْبٍ) ابْنَهَا
مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيْ الْلَّيْلَةِ الْثَّانِيَةِ عَشَرَةَ مِنْ رَبِيْعٍ الْأَوَّلِ
سُنَّةَ 571 مِيْلَّادِيَّةُ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِعَامٍ الْفِيِلِ.

وَقَدْ وُلِدَ مُحَمَّدْ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتِيْما، فَقَدْ مَاتَ أَبُوْهُ، وَهُوَ`لَمْ يَزَلْ جِنِّيَّنا فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَقَدْ خَرَجَ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ إِلَىَ تِجَارَةٍ فِيْ الْمَدِيْنَةِ فَمَاتَ هُنَاكَ، وَاعْتَنَى بِهِ جَدُّهُ عَبْدُالْمُطَّلِبِ، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمَ مَشْهُوْرا وَلَا مُنْتَشِرا بَيْنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخَذَتْهُ الْسَّيِّدَةُ حُلَيْمَةٌ الْسَّعْدِيَّةِ لِتُرْضِعَهُ فِيْ بَنِيَّ سَعْدٍ بَعِيْدا عَنْ مَكَّةَ؛ فَنَشَأَ قَوِىَّ الْبُنْيَانِ، فَصِيْحٌ الْلِّسَانِ، وَرَأَوُا الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مِنْ يَوْمِ وُجُوْدِهِ بَيْنَهُمْ.

وَفِيْ الْبَادِيَةِ، وَبَيْنَمَا مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، إِذْ جَاءَ إِلَيْهِ جِبْرِيْلُ -عَلَيْهِ الْسَّلَامُ- فَأَخَذَهُ، وَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً هِيَ حَظِّ الْشَّيْطَانَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِيْ طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أَعَادَ الْقَلْبُ إِلَىَ مَكَانِهِ، فَأَسْرَعَ الْغِلْمَانَ إِلَىَ حَلِيْمَةَ فَقَالُوَا: إِنَّ مُحَمَّدا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوُهُ وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ الْلَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ بْنِ مَالِكٍ: كُنْتُ أَرَىَ أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِيْ صَدْرَهُ.[مُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ] وَلَمَّا رَأَتْ حُلَيْمَةٌ الْسَّعْدِيَّةِ ذَلِكَ، أُرْجِعَتْ مُحَمَدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَىَ أُمِّهِ آَمِنَةَ، فَكَانَ مَعَهَا تَعْتَنِيْ بِهَ حَتَّىَ بَلَغَ الْسَّادِسَةْ مِنْ عُمُرِهِ، وَبَعْدَهَا تُوُفِّيَتْ، فَأَخَذَهُ جَدِّهِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ الَّذِيْ لَمْ يَزَلْ يَعْتَنِيَ بِهِ مُنْذُ وِلَادَتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ جَدُّهُ وَهُوَ فِيْ الْثَّامِنَةِ مِنْ عُمْرِهِ، عَهْدِ بِكَفَالَتِهِ إِلَىَ عَمِّهِ أَبِىْ طَالِبٍ..

وَقَدْ شَهِدَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْبٍ الْفُجَّارَ مَعَ أَعْمَامَهُ، وَهَذِهِ حَرْبٍ خَاضَتْهَا قُرَيْشٍ مَعَ كِنَانَةَ ضِدَّ قَيْسٍ عَيْلَانَ مِنْ هَوَازِنَ دَفَاعا عَنْ قَدْاسةُ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَمَكَانَةٌ بَيْتِ الْلَّهِ الْحَرَامِ، كَمَا شَهِدَ حَلَفَ الْفُضُولِ الَّذِيْ رُدَّتْ فِيْهَا قُرَيْشٌ لِرَجُلٍ مِنْ زُبَيْدٍ حَقُّهُ الَّذِيْ سَلَبَهُ مِنْهُ الْعَاصِ بْنْ وَائِلٍ الْسَّهْمِىِّ، وَكَانَ هَذَا الْحِلْفِ فِيْ دَارِ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَقَدْ اتَّفَقَتْ فِيْهِ قُرَيْشٌ عَلَىَ أَنْ تَرُدَّ لِلْمَظْلُوْمِ حَقَّهُ، وَكَانَ لِهَذَيْنِ الْحَدَثَيْنِ أَثَرَهُمَا فِيْ حَيَاةِ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَكَانَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ قُرَيْشٍ امْرَأَةً شَرِيْفَةٌ تُسَمَّىَ خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، كَانَتْ تَسْتَأْجِرُ الْرِّجَالَ فِيْ تِجَارَتِهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ بِأَمَانَةٍ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَعَرَّضَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِتِجَارَتِهَا إِلَىَ الْشَّامِ، وَتُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مَا تُعْطِىَ غَيْرِهِ، فَوَافَقَ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةٍ، وَتَاجِرا وَرِبْحَا، وَلَمَّا عَادا مِنْ الْتِّجَارَةِ، أَخْبَرَ مَيْسَرَةٍ سَيِّدَتِهِ خَدِيْجَةَ بِمَا لِمُحَمَّدِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَصَائِصِ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ ذَكِيَّةٍ، فَأَرْسَلَتْ تُخْطَبُ مُحَمَدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ جَاءَ عَمُّهُ أَبُوْ طَالِبٍ وَعَمَّهُ حَمْزَةَ وخَطَبَاهَا لِمُحَمَّدِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَزَوّجَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَدِيْجَةَ، وَكَانَتْ نَعَمْ الْزَّوْجَةُ الْصَّالِحَةُ، فَقَدْ نَاصَرْتُهُ فِيْ حَيَاتِهَا، وَبَذَلْتُ كُلِّ مَا تَمْلِكُ فِيْ سَبِيِلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْلَّهِ، وَقَدْ عَرَفَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُسْنِ تَدْبِيْرِهِ وَحَكَّمَتْهُ وَرَجَاحَةِ عَقْلِهِ فِيْ حِلٍّ الْمُشْكِلَاتِ، فَقَدْ أَعَادَتْ قُرَيْشٍ بِنَاءً الْكَعْبَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوَا فِيْمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مَكَانَهُ، حَتَّىَ كَادَتْ أَنْ تَقُوْمَ حَرْبٍ بَيْنَهُمْ، وَظَلُّوا عَلَىَ ذَلِكَ أَيَّاما، وَاقْتَرَحَ أَبُوْ أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيْرَةِ تَحْكِيْمِ أَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ثَوْبَ، ثُمَّ أَمَرَ بِوَضْعِ الْحِجْرُ فِيْ الْثَّوْبِ، وَأَنْ تَأْخُذَ كُلَّ قَبِيْلَةِ طَرَفا مِنَ الْثَّوْبِ، فَرَفَعُوهُ جَمِيْعا، حَتَّىَ إِذَا بَلَغَ الْمَوْضِعَ، وَضَعَهُ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْشَّرِيِفَةِ مَكَانَهُ، ثُمَّ بَنَىْ عَلَيْهِ، وَكَانَ آَنَذَاكَ فِيْ الْخَامِسَةِ وَالْثَّلاثِيْنَ مِنْ عُمْرِهِ.

وَلَمَّا قَرُبَتْ سَنَّ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْأَرْبَعِيْنَ، حُبِّبَتْ إِلَيْهِ الْعُزْلَةِ، فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِيْ غَارِ حِرَاءٍ، يُتَعَبَّدُ فِيْهِ، وَيَتَأَمَّلُ هَذَا الْكَوْنِ الْفَسِيحِ، وَفِيْ يَوْمِ مِنْ الْأَيَّامِ كَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ فِيْ غَارٍ حِرَاءٍ، فَجَاءَ جِبْرِيْلُ، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ.. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَهُ جِبْرِيْلُ فَضَمَّهُ ضَما شَدِيْدا ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَهُ جِبْرِيْلُ ثَانِيَةً وَضَمَّهُ إِلَيْهِ ضَما شَدِيْدا، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ لَهُ جِبْرِيْلُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عِلْمٍ الْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَقَ:1-5] _[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].

فَكَانَ هَذَا الْحَادِثِ هُوَ بِدَايَةٍ الْوَحْيِ، وَلَكِنَّ رَّسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ مِمَّا حَدَثَ لَهُ، فَذَهَبَ إِلَىَ خَدِيْجَةَ وَطُلِبَ مِنْهَا أَنْ تُغَطِّيَهُ، ثُمَّ حَكَىَ لَهَا مَا حَدَثَ، فَطْمْأَنَتِهُ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْلَّهِ لَنْ يُضَيِّعَهُ أَبَدا، ثُمَّ ذَهْبَتِ بِهِ إِلَىَ ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَحَكَى لَهُ مَا رَأَىَ، فَبَشِّرْهُ وَرَقَةٍ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَمَنَّىْ أَنْ لَّوْ يَعِيْشُ حَتَّىَ يَنْصُرُهُ، لَكِنْ وَرَقَةٍ مَاتَ قَبْلَ الْرِّسَالَةِ، وَانْقَطَعَ الْوَحْىِ مُدَّةَ، فَحَزِنَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ الْوَحْىُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَقَدْ رَأَىَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيْلَ قَاعِدا عَلَىَ كُرّسِىٍ بَيْنَ الْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرَجَعَ مُسَرَّعا إِلَىَ أَهْلِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: زَمِّلُونِى، زَمِّلُونِى (أَىُّ غَطُوَنّىْ) فَأَنْزَلَ الْلَّهُ تَعَالَىْ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبُّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ} _[الْمُدَّثِّرُ: 1-5] ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْىِ بَعْدَ ذَلِكَ [الْبُخَارِىُّ].

وَبَعْدَ هَذِهِ الْآَيَاتِ الَّتِىْ نَزَلَتْ كَانَتْ بِدَايَةَ الْرِّسَالَةِ، فَبَدَأَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوَ الْأَقْرَبِيْنَ إِلَىَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ آَمَنَ خَدِيْجَةَ زَوْجَتِهِ، وَأَبُوْ بَكْرٍ صَدِيْقَهُ، وَعَلِيٌّ بِنُ أَبِىْ طَالِبٍ ابْنُ عَمِّهِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثُهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْنَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيْ دُخُوْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْزَلَ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَىَ رَسُوْلِهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الْأَقْرَبِيْنَ}_[الْشُّعَرَاءُ: 214]

فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْ الْلَّهِ أَنْ يَجْهَرَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْدَّعْوَةِ، فَجَمَعَ أَقَارِبِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَأَعْلَمُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مِنَ عِنْدَ الْلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُ الْلَّهِ تَعَالَىْ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِيْنَ} [الْحَجَرَ: 94]

قَامَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنْكِرُ عُبَادَةَ الْأَصْنَامَ، وَمَا عَلَيْهِ الْنَّاسُ مِنْ الضَّلَالَةِ، وَسَمِعْتُ قُرَيْشٍ بِمَا قَالَهُ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْهُمْ الْحَمِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ الَّتِىْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَحَاوَلُوْا أَنْ يَقِفُوْا ضِدَّ هَذِهِ الْدَّعْوَةِ الْجَدِيْدَةٍ بِكُلِّ وَسِيْلَةٍ، فَذَهَبُوا إِلَىَ أَبِىْ طَالِبٍ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمُ الْرَّسُوُلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَضَ، وَكَانُوْا يُشَوِّهُوْنَ صَوَّرْتُهُ لِلْحُجّاجِ مَخَافَةَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَكَانُوْا يَسْخَرُوْنَ مِنَ الَّرَّسُولِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ الْقُرْآَنَ، وَّيَتَّهِمُونَهُ بِالْجُنُوْنِ وَالْكَذِبَ، لَكِنْ بِاءَتْ مُحَاوَلَاتِهِمْ بِالْفَشَلِ، فَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ تَأْلِيْفُ شَىْءٍ كَالْقُرْآَنِ فَلَمْ يَسْتَطِيْعُوْا، وَكَانُوْا يُؤْذُوْنَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ الْإِيْذَاءِ كَىَ يَرُدُّوهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ الْنَّتِيجَةُ أَنْ تُمْسِكَ الْمُسْلِمُوْنَ بِدِيْنِهِمْ أَكْثَرَ.

وَكَانَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ بِالْمُسْلِمِيْنَ سِرا فِيْ دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِىْ الْأَرْقَمِ يَعْلَمُهُمْ أُمُوْرِ الْدِّيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ فَتْرَةٍ أَنْ يُهَاجِرُوْا إِلَىَ الْحَبَشَةِ، فَهَاجَرَ عَدَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ إِلَىَ الْحَبَشَةِ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَىَ الْنَّجَاشِىِّ يَرُدُّهُمْ، لَكِنَّ الْلَّهَ نَصَرَ الْمُسْلِمِيْنَ عَلَىَ الْكُفَّارِ؛ فَرَفَضَ الْنَّجَاشِىِّ أَنَّ يُسَلِّمُ الْمُسْلِمِيْنَ وَظَلُّوا عِنْدَهُ فِيْ أَمَانِ يَعْبُدُوْنَ الْلَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُوْنَ مُسَاوَمَةِ أَبِىْ طَالِبٍ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِأَنَّ يُسَلِّمُ لَهُمْ مُحَمَّدا إِلَّا أَنَّهُ أَبِىْ إِلَا أَنْ يَقِفَ مَعَهُ، فَحَاوَلُوْا قُتِلَ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ الْلَّهَ مَنَعَهُ وَحِفْظِهِ.

وَفِيْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْعَصِيبَةٌ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَانَا مَنَعَةٌ وَحِصْنا لِلْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِيْنَ لَمْ يَكُفُّوا عَنْ الْتَفْكِيْرِ فِيْ الْقَضَاءِ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا عَلِمَ أَبُوْ طَالِبٍ بِذَلِكَ جَمَعَ بَنِيَّ هَاشِمٍ وَبَنِيَّ عَبْدِالْمُطَّلِبِ وَاتَّفَقُوْا عَلَىَ أَنَّ يَمْنَعُوْا الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُصِيْبُهُ أَذَىً، فَوَافَقَ بَنُوْ هَاشِمٍ وَبَنُوْ عَبْدِالْمُطَّلِبِ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إِلَّا أَبَا لَهَبٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ قُرَيْشٍ، فَاتَّفَقَتْ قُرَيْشٍ عَلَىَ مُقَاطَعَةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَمَعَهُمْ بَنُوْ هَاشِمٍ وَبَنُوْ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَكَانَ الْحِصَارِ فِيْ شِعْبٍ أَبِىْ طَالِبٍ ثَلَاثٍ سَنَوَاتٍ، لَا يُتَاجِرُوْنَ مَعَهُمْ، وَلَا يَتَزَوَّجُونَ مِنْهُمْ، وَلَا يُجَالِسُّونَهُمْ وَلَا يُّكَلِّمُوْنَهُمْ، حَتَّىَ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ، وَنَادَوْا فِيْ قُرَيْشٍ أَنَّ يَنْقُضُوا الْصَّحِيْفَةِ الَّتِىْ كَتَبُوْهَا، وَأَنْ يُعِيْدُوْا الْعَلَاقَةٌ مَعَ بَنِيَّ هَاشِمٍ وَبَنِيَّ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَوَجَدُوْا الْأَرَضَةُ أَكَلَتْهَا إِلَا مَا فِيْهَا مِنْ اسْمٍ الْلَّهِ.

وَتَرَاكَمَتْ الْأَحْزَانُ فِيْمَا بَعْدُ لِوَفَاةِ أَبِىْ طَالِبٍ عَمِّ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجِهِ خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، فَقَدْ ازْدَادَ اضْطِهَادٌ وَتَعْذِيْبُ الْمُشْرِكِيْنَ، وَفَكَّرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ مَكَّةَ إِلَىَ الْطَّائِفِ يَدْعُوَ أَهْلُهَا إِلَىَ الْإِسْلَامِ، إِلَا أَنَّهُمْ كَانُوْا أَشْرَارا، فَأَهَانُوا الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدَ ابْنِ حَارِثَةَ الَّذِيْ كَانَ مَعَهُ، وَأَثْنَاءَ عَوْدَتِهِ بَعَثَ الْلَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ اسْتَمِعُوَا إِلَىَ الْقُرْآَنِ الْكَرِيْمِ، فَآَمِنُوا.

وَأَرَادَ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ يُخَفَّفُ عَنْ الْرَّسُولَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ رِحْلَةٌ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَالَّتِى فُرِضَتْ فِيْهَا الْصَّلَاةُ، خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِيْ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسٍ الْنَّبِيّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الرِّحْلَةِ، لِيَبْدَأَ مِنْ جَدِيْدٍ الْدَّعْوَةِ إِلَىَ الْلَّهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْلَّهَ مَعَهُ لَنْ يَتْرُكَهُ وَلَا يَنْسَاهُ، فَكَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ فِيْ مَوْسِمِ الْحَجِّ يَدْعُوَ الْنَّاسَ إِلَىَ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ رَسُوْلُ الْلَّهِ، فَآَمَنَ لَهُ فِيْ الْسُّنَّةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ النُّبُوَّةِ عَدَدَ قَلِيْلٌ، وَلَمَّا كَانَتْ الْسُّنَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْنُّبُوَّةِ أَسْلَمَ سِتَّةِ أَشْخَاصٍ مِنْ يَثْرِبَ كُلُّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ حُلَفَاءَ الْيَهُوْدُ، وَقَدْ كَانُوْا سَمِعُوْا مِنَ الْيَهُوْدِ بِخُرُوْجِ نَبِيَّ فِيْ هَذَا الْزَّمَانِ، فَرَجَعُوَا إِلَىَ أَهْلِيْهِمْ، وَأَذَاعُوْا الْخَبَرَ بَيْنَهُمْ.

وَعَادُوْا الْعَامِّ الْقَادِمْ وَهْمٌ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فِيْهِمْ خَمْسَةُ مِمَّنْ حَضَرَ الْعَامَ الْمَاضِىْ وَبِايِّعُوْا رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفْتُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ بِبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُوْلَىْ فَرَجَعُوَا وَأَرْسَلَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لِيُعَلِّمَهُمْ أُمُوْرٍ دِيْنَهُمْ، وَقَدْ نَجَحَ مُصْعَبٍ بْنِ عُمَيْرٍ نَجَاحا بَاهِرا، فَقَدِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْعُوَا كِبَارِ الْمَدِيْنَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، حَتَّىَ آَمَنَ عَدَدُ كَبِيْرٌ مِنْهُمْ، وَفِيْ الْسَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْنُّبُوَّةِ، جَاءَ بِضْعٌ وَسَبْعُوْنَ نَفْسا مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ فِيْ مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَالْتَقَوْا بِرَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعُوْهُ بَيْعَةً الْعَقَبَةِ الْثَّانِيَةِ، وَتَمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَىَ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ.

وَأْمُرْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا الْصَّحَابَةِ أَنْ يُهَاجِرُوْا إِلَىَ يَثْرِبَ، فَهَاجَرَ مَنْ قَدَّرَ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ، وَبَقَى رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُوْ بَكْرٍ وَعَلَىَ وَبَعْضُ الضُّعَفَاءِ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ الْهِجْرَةِ، وَسَمِعْتُ قُرَيْشٍ بِهِجْرَةِ الْمُسْلِمِيْنَ إِلَىَ يَثْرِبَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّ مُحَمَّدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابُدَّ أَنْ يُهَاجِرَ، فَاجْتَمَعُوْا فِيْ دَارِ الْنَّدْوَةِ لُمُحَاوَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- نَجَّاهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَهَاجَرَ هُوَ وَأَبُوْ بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عَلِيا مَكَانَهُ لِيَرُدَّ الْأَمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا.

وَهَاجَرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُوْ بَكْرٍ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ، وَاسْتَقْبَلَهُمَا أَهْلِ الْمَدِيْنَةِ بِالْتِرْحَابِ وَالْإِنْشَادِ، لِتَبْدَأَ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ مَرَاحِلُ الْدَّعْوَةِ، وَهِيَ الْمَرْحَلَةِ الْمَدِنِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ انْتَهَتْ الْمَرْحَلَةِ الْمَكِّيَّةِ، وَقَدْ وَصَلْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِيْنَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (12 رَبِيْعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ 1هِـ/ الْمُوَافِقُ 27 سَبْتَمْبَرْ سُنَّةَ 622مْ)

وَنَزَلَ فِيْ بَنِيَّ النَّجَّارِ، وَعَمِلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَىَ تَأْسِيْسْ دَوْلَةً الْإِسْلامُ فِيْ الْمَدِيْنَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا صَنَعَهُ أَنْ بَنَىْ الْمِسْجِدْ الْنَّبَوِىِّ، لِيَكُوْنَ دَارِ الْعِبَادَةِ لِلْمُسْلِمِيْنَ، ثُمَّ آَخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَالْأَنْصَارِ، كَمَا كُتِبَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاهَدَةً مَعَ الْيَهُوْدِ الَّذِيْنَ كَانُوْا يَسْكُنُوْنَ الْمَدِيْنَةِ.

وَبَدَأَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْتَنَى بِبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ دَاخِلِيا، كَىْ يَكُوْنْ صَفا وَاحِدا يُدَافِعُ عَنِ الْدَّوْلَةِ الْنَّاشِئَةِ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِيْنَ بِمَكَّةَ لَمْ تَهْدَأْ ثَوْرَتَهُمْ، فَقَدْ أَرْسَلُوْا إِلَىَ الْمُهَاجِرِيْنَ أَنَّهُمْ سَيَأْتُونَهُمْ كَىَ يَقْتُلُوَهُمْ، فَكَانَ لَابُدَّ مِنْ الْدِّفَاعِ، فَأَرْسَلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَدا مِنْ الَسَّرَايَا، كَانَ الْغَرَضِ مِنْهَا التَّعَرُّفِ عَلَىَ الْطُّرُقِ الْمُحِيْطَةِ بِالْمَدِيْنَةِ، وَالْمَسَالِكِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَىَ مَكَّةَ، وَعَقَدَ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ القَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ وَإِشْعَارِ كُلِّ مَنْ مُشْرِكِى يَثْرِبَ وَالْيَهُوْدِ وَعَرَّبَ الْبَادِيَةِ وَالْقُرَشِيِّينَ أَنْ الْإِسْلَامِ قَدْ أَصْبَحَ قَوِيا.

وَكَانَتْ مِنَ أَهُمْ الْسَّرَايَا الَّتِىْ بَعَثَهَا رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ سَرَّيَّةِ سَيْفٌ الْبَحْرِ، وَسَرِّيَّةِ رَابِغَ، وَسَرِّيَّةِ الْخَرَّارِ، وَسَرِّيَّةِ الْأَبْوَاءِ، وَسَرِّيَّةِ نَخْلَةٌ، وَفِيْ شَهْرِ شَعْبَانُ مِنْ الْسَنَةِ الْثَّانِيَةُ الْهِجْرِيَّةُ فَرَضَ الْلَّهُ الْقِتَالَ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَنَزَلَتْ آَيَاتِ تُوَضِّحُ لَهُمْ أَهَمِّيَّةِ الْجِهَادِ ضِدَّ أَعْدَاءِ الْإِسْلامِ، وَفِيْ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَمْرٍ الْلَّهِ -سُبْحَانَهُ- رَسُوُلِهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْوِيْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ هَذَا إِيْذَانا بِبَدْءِ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ فِيْ حَيَاةِ الْمُسْلِمِيْنَ خَاصَّةً، وَالْبَشَرْيَّةِ عَامَّةً.

بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، وَتَحَرُّشٍ الْمُشْرِكِيْنَ بِهِمْ، كَانَ لَابُدَّ مِنْ الْقِتَالِ فَكَانَتْ عِدَّةَ لِقَاءَاتْ عَسْكَرِيَّةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، أَهَمِّهَا: غَزْوَةٍ بَدْرٍ الْكُبْرَىَ فِيْ الْعَامِ الْثَّانِىَ الْهَجَرِىِّ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ بِقَافِلَةٍ تِجَارِيَّةٌ كَبِيْرَةً عَلَىَ رَأْسِهَا أَبُوْ سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَقَدْ خَرَجَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ ثَلَاثِمِائَةِ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا لِقَصْدِ هَذِهِ الْقَافِلَةُ، لَكِنْ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يَتَحَسَّسُ الْخَبَرَ فَأَرْسَلَ رَجُلا إِلَىَ قُرَيْشٍ يَعْلَمُهُمْ بِمَا حَدَثَ، ثُمَّ نَجَحَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيْ الْإِفْلَاتَ بِالْعَيْرِ وَالْتِّجَارَةِ، وَاسْتَعَدْتُ قُرَيْشٍ لِلْخُرُوْجِ، فَخَرَجَ أَلْفِ وَثَلَاثِمِائَةٍ رَجُلٌ، وَأَرْسَلَ أَبُوْ سُفْيَانَ إِلَىَ قُرَيْشٍ أَنَّهُ قَدْ أَفْلَتَ بِالْعَيْرِ، إِلَا أَنْ أَبَا جَهْلٍ أَصَرَّ عَلَىَ الْقِتَالِ، فَرَجَعَ بِنُوُ زَهْرَةَ وَكَانُوْا ثَلَاثَمِائَةٍ رَجُلٌ، وَاتَّجَهَ الْمُشْرِكُوْنَ نَاحِيَةٍ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُوْنَ قَدْ سَبَقُوْهُمْ إِلَيْهَا بَعْدَ اسْتِطِّلاعَاتِ وَاسْتِكِشَافَّاتِ.

وَبَدَأَتْ الْحَرْبِ بِالْمُبَارَزَةِ بَيْنَ رِجَالِ مَنْ الْمُشْرِكِيْنَ وَرِجَالٌ مَنْ الْمُهَاجِرِيْنَ، قُتِلَ فِيْهَا الْمُشْرِكُوْنَ، وَبَدَأَتْ الْمَعْرَكَةِ، وَكَتَبَ الْلَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْمُسْلِمِيْنَ فِيْهَا الْنَّصْرُ وَلِلْكُفّارِ الْهَزِيْمَةِ، وَقَدْ قُتِلَ الْمُسْلِمُوْنَ فِيْهَا عَدَدا كَبِيْرا، كَمَا أَسَرُّوْا آُخَرِيْنَ، وَبَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ عِلْمٍ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِيَّ سُلَيْمٍ مِنْ قَبَائِلِ غَطَفَانَ تَحْشُدُ قُوَّاتِهَا لِغَزْوِ الْمَدِيْنَةِ، فَأَسْرَعَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ مِائَتَىْ رَجُلٍ وَهَاجَمَهُمْ فِيْ عُقْرِ دَارِهِمْ، فَفِرُّو?ا بَعْدَ أَنْ تَرَكُوْا خَمْسَمِائَةِ بَعِيْرٍ اسْتَوْلَىَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُوْنَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِيْ شَوَّالٍ (2هِـ) بَعْدَ بَدْرٍ بَسَبْعَةِ أَيَّامِ، وَعَرَفْتُ بِغَزْوَةٍ بَنِيَّ سُلَيْمٍ.

وَرَأَتْ الْيَهُوْدِ فِيْ الْمَدِيْنَةِ نَصْرُ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَاظُوا لِذَلِكَ، فَكَانُوْا يُثِيْرُونَ القَلَاقِلِ، وَكَانَ أَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً بَنُوْ قَيْنُقَاعَ، فَجَمَعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُوْدَ بِالْمَدِيْنَةِ وَنُصْحِهِمْ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، إِلَا أَنَّهُمْ أَبْدَوْا اسْتِعْدَادِهِمْ لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَكَظّمْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْظَهُ، حَتَّىَ تُسَبِّبُ رَجُلٌ مِنْ بَنِيَّ قَيْنُقَاعَ فِيْ كَشْفِ عَوْرَةَ امْرَأَةِ، فَقَتَلَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِيْنَ، فَقُتِلَ الْيَهُوْدُ الْمُسْلِمِ فَحَاصَرَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عَنْ الْمَدِيْنَةِ بِسَبَبِ إِلْحَاحُ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ أَبِىْ بْنِ سَلُوْلٍ.

وَفِيْ ذِيْ الْحِجَّةِ سَنَةَ (2هِـ) خَرَجَ أَبُوْ سُفْيَانَ فِيْ نَفَرٍ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ، فَأُحَرِّقَ بَعْضٍ أَسْوَارِ مَنْ الْنَّخِيلِ، وَقُتِّلُوْا رَجُلَيْنِ، وَفِّرُوْا هَارِبِيْنَ، فَخَرَجَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أَثَرِهِمْ، إِلَا أَنَّهُمْ أَلْقَوْا مَا مَعَهُمْ مِنَ مَتَاعُ حَتَّىَ اسْتَطَاعُوْا الْإِسْرَاعُ بِالْفِرَارِ وَعَرَفْتُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِغَزْوَةٍ الْسَّوِيُّقَ، كَمَا عَلَّمَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَفَرا مِنْ بَنِيَّ ثَعْلَبَةَ وَمُحَارِبٌ تَجْمَعُوْا يُرِيْدُوْنَ الْإِغَارَةِ عَلَىَ الْمَدِيْنَةِ، فَخَرَجَ لَهُمْ الْرَسَوُلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّىَ وَصَلَ إِلَىَ الْمَكَانِ الَّذِيْ تَجْمَعُوْا فِيْهِ، وَكَانَ يُسَمَّىْ بِـ(ذِيْ أَمْرِ) فَفِرُّو?ا هَارِبِيْنَ إِلَىَ رُءُوْسِ الْجِبَالِ، وَأَقَامَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرا لِيُرْهِبُ الْأَعْرَابِ بِقُوَّةٍ الْمُسْلِمِيْنَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِيْ أَوَائِلِ صَفَرَ سُنَّةَ (3هِـ).

وَفِيْ جُمَادَىْ الْآَخِرَةِ سَنَةً (3هِـ) خَرَجَتْ قَافِلَةِ لِقُرَيْشٍ بِقِيَادَةِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَمَعَ أَنَّ الْقَافِلَةِ اتَّخَذْتُ طَرِيْقا صَعْبا لَا يَعْرِفُ، إِلَا أَنْ الْنَّبَأِ قَدْ وَصَلَ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ وَخَرَجْتُ سَرَّيَّةِ بِقِيَادَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، اسْتَوْلَتْ عَلَىَ الْقَافِلَةِ وَمَا فِيْهَا مِنْ مَتَاعٍ، وَفِّرْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَمَنْ مَّعَهُ، اغْتَاظَ كُفَّارٌ مَكَّةَ مِمَّا حَدَثَ لَهُمْ فِيْ غَزْوَةٍ بَدْرٍ، فَاجْتَمَعُوْا عَلَىَ الاسْتِعْدَادِ لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، وَقَدْ جَعَلُو?ا الْقَافِلَةِ الَّتِىْ نَجَا بِهَا أَبُوَسُفْيَانَ لِتَمْوِيلِ الْجَيْشِ وَاسْتَعَدْتُ الْنِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ لِلْخُرُوْجِ مَعَ الْجَيْشِ لتَحُمِيْسَ الْرِّجَالِ، وَقَدْ طَارَتْ الْأَخْبَارِ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ بِاسْتِعْدَادِ الْمُشْرِكِيْنَ لِلْقِتَالِ، فَاسْتَشَارَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْصَّحَابَةِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ -بَدْءا- أَنَّ يَبْقُوْا فِيْ الْمَدِيْنَةِ، فَإِنَّ عَسْكَرِ الْمُشْرِكُوْنَ خَارِجَهَا، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوْا مِنْهُمْ شَيْئا، وَإِنْ غَزَوَا الْمَدِيْنَةِ، قَاتِلُوْهُمْ قِتَالِا شَدِيْدا.

إِلَا أَنَّ بَعْضَ الْصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِتَالِ فِيْ بَدْرٍ، أَشَارُوْا عَلَىَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوْجَ مِنَ الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ عَلَىَ رَأْسِ الْمُتَحَمِّسِيْنَ لِلْخُرُوْجِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَلَبِسَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْحَرْبِ، وَخَرَجَ الْجَيْشِ وَفِيْهِ أَلْفَ مُقَاتِلُ، وَاتَّخَذَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانا قَرِيْبا مِنْ الْعَدُوّ عِنْدَ جَبَلِ أُحُدٍ، وَمَا كَادَ وَقْتِ الْمَعْرَكَةِ أَنَّ يَبْدَأُ حَتَّىَ تَرَاجَعَ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ أَبِىْ سَلُوْلَ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، بِزَعْمٍ أَنْ الْرَّسُوْلَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ عَلَىَ الْخُرُوْجِ، وَمَا أَرَادَ بِفِعْلَتِهِ إِلَا بَثَّ الْزَّعْزَعَةُ فِيْ صُفُوْفِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَبَقِىَ مِنْ الْجَيْشِ سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ عَدَدُ الْمُشْرِكِيْنَ ثَلَاثَةِ
آَلَافِ مُقَاتِلُ.

وَاتَّخَذَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانا مُتَمَيِّزا فِيْ الْمَعْرَكَةِ، وَجَعَلَ بَعْضٍ الْمُقَاتِلِيْنَ فِيْ الْجَبَلِ، وَهُوَ مَا عُرِفَ فِيْمَا بَعْدُ بِجَبَلِ الْرُّمَاةُ، وَأُمِّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَالَلَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمُوْا ظُهُوْرِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَأَلَا يَنْزِلُوْا مُهِمَّا كَانَ الْأَمْرُ، سَوَاءُ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُوْنَ أَمْ انْهَزَمُوَا، إِلَا إِذَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَدَأَتْ الْمُبَارَزَةِ بَيْنَ الْفَرِيْقَيْنِ، وَقَتْلُ فِيْهَا الْمُسْلِمُوْنَ عَدَدا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَكَانَ مُعْظَمُهُمْ مِمَّنْ كَانُوْا يَحْمِلُوْنَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِيْنَ، حَتَّىَ أَلْقَىَ الْلِّوَاءِ عَلَىَ الْأَرْضِ، وَاسْتَبْسَلَ الْمُسْلِمُوْنَ وَقَاتَلُوا قِتَالا شَدِيْدا، وَاسْتَبْسَلَ مِنْ كَانُوْا عَلَىَ الْجَبَلِ.

إِلَا أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْمُسْلِمِيْنَ يَجْمَعُوْنَ الْغَنَائِمِ نَزَلُوْا، فَذَكَّرَهُمْ قَائِدَهُمْ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوْا لَهُ، وَلَاحَظَ خَالِدٍ بْنِ الْوَلِيّدِ، فَرَجَعَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَطُوِّقَ جَيْشٍ الْمُسْلِمِيْنَ، وَاضْطَرَبَتْ الْصُّفُوفَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُوْنَ مِنْ الْمُسْلِمِيْنَ سَبْعِيْنَ رَجُلا وَاقْتَرَبَوْا مِنْ رَّسُوْلٍ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِيْ أُصِيْبَ بِبَعْضٍ الْإِصَابَاتُ، وَالَّذِي حَاوَلَ الْمُشْرِكُوْنَ قَتَلَهُ لَوْلَا بَسَالَةٌ بَعْضٌ الْصَّحَابَةِ مِمَّنْ دَافِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَيِّعُ قُتِلَ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ انْتَشَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِيْنَ كَذَّبَ الْخَبَرْ، فَتَجَمَّعُوْا حَوْلَهُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَطَاعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَرِقَ طَرِيْقا وَيَنْجُوَ بِمَنْ مَعَهُ، وَصَعِدُوا الْجَبَلِ، وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُوْنَ قِتَالِهِمْ، إِلَا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيْعُوْا، فَرَجَعُوَا وَخَشِىَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْرِكُوْنَ، فَخَرَجَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِيْ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَحَسْبُ، وَلَمْ يَقْبَلْ غَيْرِهِمْ إِلَا عَبْدِالْلَّهِ بْنِ جَابِرٍ فَقَدْ قَبِلَ عُذْرُهُ.

وَخَرَجَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْصَّحَابَةِ حَتَّىَ وَصَلُوْا إِلَىَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَقَدْ أَقْبَلَ مَعْبَدِ بْنِ أَبِىْ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ وَأَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَخَادَعَةً أَبِىْ سُفْيَانَ إِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ الْرُّجُوْعَ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَفِيْ طَرِيْقِ الْعَوْدَةِ اتَّفَقَ الْمُشْرِكُوْنَ عَلَىَ الْرُّجُوْعِ، فَقَابِلْهُمْ مَعْبَدِ بْنِ أَبِىْ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوْ سُفْيَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ جَيْشا كَبِيْرا لِقِتَالِكُمْ، كَىَ يَسْتَأْصِلُكُمْ، فَارْجِعُوَا، وَأَحْدَثَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ زَعْزَعَةُ فِيْ صُفُوْفِ الْمُشْرِكِيْنَ.

وَبَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، بَعَثَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْسَّرَايَا لِتَّأْدِيبَ مِنَ يُرِيْدُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، كَسَرِيِّةٍ أَبِىْ سَلَمَةَ فِيْ هِلَالِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ (4هِـ) إِلَىَ بَنِيَّ أَسَدٍ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَبَعَثَ عَبْدِاللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ لِخَالِدٍ بْنِ سُفْيَانَ الَّذِيْ أَرَادَ حَرْبٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَأَتَىَ عَبْدِاللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ بِرَأْسِهِ لِرَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيْ بَعَثَ الْرَّجِيْعِ قُتِلَ بَعْضُ الْصَّحَابَةِ، وَفِيْ الْسَّنَةِ نَفْسِهِا، بَعَثَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْصَّحَابَةِ لِأَهْلِ نَجْدٍ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَىَ الْإِسْلَامِ، وَفِيْ الْطَّرِيْقِ عِنْدَ بِئْرِ مَعُوْنَةَ أَحَاطَ كَثِيْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِيْنَ بِالْمُسْلِمِيْنَ، وَقتلُوْا سَبْعِيْنَ مِنْ الْصَّحَابَةِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْخَبَرِ، حُزْنٍ حَزَنا شَدِيْدا، وَدَعَا عَلَىَ الْمُشْرِكِيْنَ.

وَكَانَتْ يُهَوَّدُ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ يُرَاقِبُوْنَ الْمَوْقِفِ، وَيَسْتَغِلُّونَ أَىُّ فُرْصَةً لِإِشْعَالِ الْفِتْنَةِ وَكَانَ بَعْضُ الْصَّحَابَةِ قَدْ قَتَلُوَا اثْنَيْنِ خَطَأً مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ بُنَوْدِ الْمِيْثَاقَ بَيْنَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُوْدِ، أَنَّ يُسَاعِدُ كُلَّ مَنْ الْطَّرَفَيْنِ الْآَخِرَ فِيْ دَفْعِ الْدِّيَةُ، فَلَمَّا ذَهَبَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ حَاوَلُوا قَتَلَهُ، إِلَّا أَنَّ الْلَّهَ سُبْحَانَهُ حَفِظَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيْلُ، يُخْبِرُهُ بِمَا يُرِيْدُوْنَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوْا، وَلَكِنَّ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ أَبِىْ وَعِدْهُمْ بِالْمُسَاعَدَةِ، فَرَفَضُوا الْخُرُوْجَ، وَحَاصَرَهُمْ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةً أَيَّامٍ، وَبَعْدَهَا قَرَّرُوْا الْخُرُوجِ عَلَىَ أَنْ يَأْخُذُوَا مَتَاعَهُمْ، وَاسْتَثْنَىً رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُمْ، فَأَخَذَهُ، وَأَخَذَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، فَتَفَرَّقَ يُهَوَّدُ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ فِيْ الْجَزِيْرَةِ.

وَفِيْ شَعْبَانَ مِنْ الْعَامِ الْرَّابِعُ الْهِجْرِيّ خَرَجَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أَلْفَ وَخَمْسِمِائَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، لِمُلْاقَاةِ أَبِىْ سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، كَمَا اتَّفَقُوْا فِيْ غَزْوَةِ أُحُدٍ إِلَا أَنْ أَبَا سُفْيَانَ خَافَ، فَتَرَاجَعَ هُوَ وَجَيْشُهُ خَوْفا مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، وَيُسَمَّى هَذَا الْحَادِثِ بِغَزْوَةٍ بَدْرٍ الْصُّغْرَىْ أَوْ بَدْرَ الْآَخِرَةِ، وَطَارَتْ الْأَنْبَاءِ إِلَىَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَبَائِلَ حَوْلَ دُوْمَةَ الْجَنْدَلِ تَحْشُدُ جَيْشا لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَخَرَجَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ جَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وفَاجَأَهُمْ، فَفِرُّو?ا هَارِبِيْنَ وَكَانَ ذَلِكَ فِيْ أَوَاخِرِ رَبِيْعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ (5هِـ) وَبِذَا فَقَدْ اسْتَطَاعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُدّ كُلِّ عُدْوَانَ، حَتَّىَ يَتَسَنَّى لَهُ الْأَمْرَ لِتَبْلِيْغِ دَعْوَةَ الْلَّهِ.

وَلَمْ تَنْسَ الْيَهُوْدُ تِلْكَ الْهَزَائِمَ الَّتِىْ لَحِقَتْ بِهَا، لَكِنَّهَا لَا تَسْتَطِيْعُ مُوَاجَهَةِ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ يُهَوَّدُ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ يَأَلِبُونَ الْمُشْرِكِيْنَ فِيْ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّىَ اجْتَمَعَ عَشْرَةَ آَلَافِ مُقَاتِلُ، وَقَدْ عُلِمَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَاسْتَشَارَ الْصَّحَابَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِىُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ، فَحُفِرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْصَّحَابَةِ الْخَنْدَقِ شَمَالِ الْمَدِيْنَةِ، لِأَنَّهُ الْجِهَةِ الْوَحِيدَةْ الَّتِىْ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِىَ الْأَعْدَاءِ مِنْهَا.

وَذَهَبَ زَعِيْمٌ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ حُيَىٍّ بْنِ أَخْطَبَ إِلَىَ زَعِيْمٌ بَنِيَّ قَيْنُقَاعَ الْمُتَحَالِفَةِ مَعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَهُ يَنْقُضُ الْعَهْدَ، إِلَا أَنْ الْلَّهُ حُمَّىْ الْمُسْلِمِيْنَ وَحَفِظَهُمْ فَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ بْنِ مَسْعُوْدٍ الَّذِيْ أَوْقَعَ الْدُسّيْسَة بَيْنَ الْيَهُوْدِ وَقُرَيْشٌ، وَجَعَلَ كُلَّا مِنْهُمُ يَتَشَكَّكُ فِيْ الْآَخَرِ، وَأَرْسَلَ الْلَّهُ عَلَيْهِمْ رِيْحا شَدِيْدَةً دُمِّرَتْ خِيَامِهِمْ، وَأَطْفَأْتَ نِيْرَانِهِمْ؛ فَاضْطِرُوا إِلَىَ الْرَّحِيْلِ وَالْفِرَارُ، وَقَالَ بَعْدَهَا الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْآَنَ نَغْزُوَهُمْ وَلَا يَغْزُوْنَنَا) وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِغَزْوَةٍ الْخَنْدَقِ أَوْ الْأَحْزَابُ، وَكَانَتْ فِيْ الْعَامِ الْخَامِسْ الْهَجَرِىِّ.

وَقَبْلَ أَنْ يَخْلَعَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَلَابِسِ الْحَرْبِ، جَاءَهُ جِبْرِيْلُ، وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَذْهَبْ لِغَزْوِ بَنِيَّ قُرَيْظَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَتَحَرَّكَ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِىُّ وَكَانَ عَدَدُهُ ثَلَاثَةٌ آَلَافِ مُقَاتِلُ وَحَاصَرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ قُرَيْظَةَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَئِيْسُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ثَلَاثَ اقْتِرَاحَاتٍ؛ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمُوْا فَيَأَمَنُوا عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوَا ذَرَارِيَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُوْا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَإِمَّا أَنْ يَهْجُمُوْا عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْسَّبْتِ؛ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُجِيْبُوهُ إِلَىَ شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَعْدَ الْرَّفْضِ إِلَا أَنْ يَنْزِلُوْا عَلَىَ حُكْمِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثُوا إِلَىَ أَبِىْ لُبَابَةَ بْنُ الْمُنْذِرِ-وَكَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ- لِيُخْبِرَهُمْ عَنْ حُكْمِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَىَ أَبُوْ لُبَابَةَ بَنِيَّ قُرَيْظَةَ رَقَّ قَلْبُهُ إِلَيْهِمْ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ إِلَىَ حَلْقِهِ كِنَايَةٌ عَنْ الْقَتْلِ، وَعَلَّمَ أَبُوْ لُبَابَةَ أَنَّهُ خَانَ الْلَّهَ وَرَسُوْلَهُ، فَذَهَبَ إِلَىَ مَسْجِدِ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبَطَ نَفْسَهُ، وَأَقْسَمَ أَلَا يَفُكُّهُ أَحَدٌ إِلَّا الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَنَزَلَتْ الْيَهُوْدُ عَلَىَ حُكْمِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقَ أَنْ يَحْكُمَ فِيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ بِأَنْ يُقْتَلَ الْرِّجَالُ، وَتُسْبَى الْنِّسَاءُ وَالذَّرَارِيِّ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ الْلَّهِ فِيْهِمْ، وَكَانَتْ الْغَزْوَةِ فِيْ ذِيْ الْقَعْدَةِ مِنْ الْعَامِ الْخَامِسُ الْهَجَرِىِّ، وَبَعْدَ غَزْوَةِ بَنِيَّ قُرَيْظَةَ بَعَثَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قُتِلُوَا سَلَامٌ بْنِ أَبِىْ الْحُقَيْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْيَهُوْدِ الَّذِيْنَ أَثَارُوْا الْأَحْزَابُ ضِدَّ الْمُسْلِمِيْنَ.

وَفِيْ شَعْبَانَ مِنْ الْعَامِ الْسَّادِسُ الْهَجَرِيِّ عِلْمٍ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ زَعِيْمٌ بَنِيَّ الْمُصْطَلِقِ جَمَعَ قَوْمَهُ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَرَبِ لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَتَأَكَّدْ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَبَرِ، وَخَرَجَ فِيْ عَدَدِ مِنْ الْصَّحَابَةِ، حَتَّىَ وَصَلَ مَاءً الْمُرَيْسِيْعَ، فَفَرَّ الْمُشْرِكُوْنَ، وَاسْتَوْلَىَ الْمُسْلِمُوْنَ عَلَىَ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَفِيْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَتْ حَادِثَةً الْإِفْكِ الَّتِىْ افْتُرِىٍ فِيْهَا عَلَىَ الْسَيِّدَةُ عَائِشَةَ، وَاتُهِمَتْ بِالْخِيَانَةِ، فَأَنْزَلَ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- بَرَاءَتَهَا فِيْ قُرْآَنٍ يُتْلَىَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَقَدْ أَرَادَ الْمُنَافِقُوْنَ أَنْ يَدسّوا الْفِتْنَةِ ب

الخلاصة في حياة الأنبياء - صفحة 2 Dqxgym10

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الخلاصة في حياة الأنبياء
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» أمــــــــــــــــ لا حياة بلا ــــــــــــــــــــــــــل
» *حياة من غير حنان ماأقساها*
» قصه حياة ابو تريكه من الاف الي الياء!!!!
» شرح حياة الأهلي من الألف للياء
» قصة حياة اللاعب محمد زيدان

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
Al-Ahly Fans Official Site :: 
القسم الإسلامي || Islamic Section
 :: الموضوعات الإسلامية
-
انتقل الى: