خَاتَمُ الْنَّبِيِّيْنَمُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَنُبْذَةً:الْنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، مِنْ بَنِيَّ هَاشِمٍ، وُلِدَ فِيْ مَكَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيْهِ عَبْدِ الْلَّهِ بِأَشْهُرٍ قَلِيْلَةٍ، تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آَمِنَةُ وَهُوَ لَا يَزَالُ طِفْلَا، كَفَلِهِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ عَمِّهِ أَبُوْ طَالِبَ، وَرَعَى الْغَنَمَ لِزَمَنٍ، تَزَوَّجَ مِنْ الْسَّيِّدَةِ خَدِيْجَةِ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَهُوَ فِيْ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِيْنَ مِنْ عُمْرِهِ، دَعَا الْنَّاسَ إِلَىَ الْإِسْلَامِ أَيْ إِلَىَ الإِيْمَانِ بِالْلَّهِ الْوَاحِدِ وَرَسُوْلِهِ، بَدَأَ دَعْوَتَهُ فِيْ مَكَّةَ فَاضَطَهَدَهُ أَهْلُهَا فَهَاجَرَ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ حَيْثُ اجْتَمَعَ حَوْلَهُ عَدَدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَامَ 622 مْ فَأَصْبَحَتْ هَذِهِ الْسَّنَةُ بَدَءَ الْتَّارِيْخِ الْهِجْرِيِّ، تُوُفِّيَ بَعْدَ أَنْ حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ.
سِيْرَتِهِ:بِهَذَا الْنَّبِيّ الْكَرِيمْ خَتَمَ الْلَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىْ سِلْسِلَةُ هِدَايَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ.
صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْكَ يَا حَبِيْبِىْ يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ
مُحَمَّدٍ (صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
فِيْ غَرْبِ الْجَزِيْرَةَ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِيْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وُلِدْتُ (آَمِنَةً بِنْتِ وَهْبٍ) ابْنَهَا
مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيْ الْلَّيْلَةِ الْثَّانِيَةِ عَشَرَةَ مِنْ رَبِيْعٍ الْأَوَّلِ
سُنَّةَ 571 مِيْلَّادِيَّةُ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِعَامٍ الْفِيِلِ.
وَقَدْ وُلِدَ مُحَمَّدْ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتِيْما، فَقَدْ مَاتَ أَبُوْهُ، وَهُوَ`لَمْ يَزَلْ جِنِّيَّنا فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَقَدْ خَرَجَ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ إِلَىَ تِجَارَةٍ فِيْ الْمَدِيْنَةِ فَمَاتَ هُنَاكَ، وَاعْتَنَى بِهِ جَدُّهُ عَبْدُالْمُطَّلِبِ، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمَ مَشْهُوْرا وَلَا مُنْتَشِرا بَيْنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخَذَتْهُ الْسَّيِّدَةُ حُلَيْمَةٌ الْسَّعْدِيَّةِ لِتُرْضِعَهُ فِيْ بَنِيَّ سَعْدٍ بَعِيْدا عَنْ مَكَّةَ؛ فَنَشَأَ قَوِىَّ الْبُنْيَانِ، فَصِيْحٌ الْلِّسَانِ، وَرَأَوُا الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مِنْ يَوْمِ وُجُوْدِهِ بَيْنَهُمْ.
وَفِيْ الْبَادِيَةِ، وَبَيْنَمَا مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، إِذْ جَاءَ إِلَيْهِ جِبْرِيْلُ -عَلَيْهِ الْسَّلَامُ- فَأَخَذَهُ، وَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً هِيَ حَظِّ الْشَّيْطَانَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِيْ طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أَعَادَ الْقَلْبُ إِلَىَ مَكَانِهِ، فَأَسْرَعَ الْغِلْمَانَ إِلَىَ حَلِيْمَةَ فَقَالُوَا: إِنَّ مُحَمَّدا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوُهُ وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ الْلَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ بْنِ مَالِكٍ: كُنْتُ أَرَىَ أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِيْ صَدْرَهُ.[مُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ] وَلَمَّا رَأَتْ حُلَيْمَةٌ الْسَّعْدِيَّةِ ذَلِكَ، أُرْجِعَتْ مُحَمَدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَىَ أُمِّهِ آَمِنَةَ، فَكَانَ مَعَهَا تَعْتَنِيْ بِهَ حَتَّىَ بَلَغَ الْسَّادِسَةْ مِنْ عُمُرِهِ، وَبَعْدَهَا تُوُفِّيَتْ، فَأَخَذَهُ جَدِّهِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ الَّذِيْ لَمْ يَزَلْ يَعْتَنِيَ بِهِ مُنْذُ وِلَادَتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ جَدُّهُ وَهُوَ فِيْ الْثَّامِنَةِ مِنْ عُمْرِهِ، عَهْدِ بِكَفَالَتِهِ إِلَىَ عَمِّهِ أَبِىْ طَالِبٍ..
وَقَدْ شَهِدَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْبٍ الْفُجَّارَ مَعَ أَعْمَامَهُ، وَهَذِهِ حَرْبٍ خَاضَتْهَا قُرَيْشٍ مَعَ كِنَانَةَ ضِدَّ قَيْسٍ عَيْلَانَ مِنْ هَوَازِنَ دَفَاعا عَنْ قَدْاسةُ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَمَكَانَةٌ بَيْتِ الْلَّهِ الْحَرَامِ، كَمَا شَهِدَ حَلَفَ الْفُضُولِ الَّذِيْ رُدَّتْ فِيْهَا قُرَيْشٌ لِرَجُلٍ مِنْ زُبَيْدٍ حَقُّهُ الَّذِيْ سَلَبَهُ مِنْهُ الْعَاصِ بْنْ وَائِلٍ الْسَّهْمِىِّ، وَكَانَ هَذَا الْحِلْفِ فِيْ دَارِ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَقَدْ اتَّفَقَتْ فِيْهِ قُرَيْشٌ عَلَىَ أَنْ تَرُدَّ لِلْمَظْلُوْمِ حَقَّهُ، وَكَانَ لِهَذَيْنِ الْحَدَثَيْنِ أَثَرَهُمَا فِيْ حَيَاةِ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ قُرَيْشٍ امْرَأَةً شَرِيْفَةٌ تُسَمَّىَ خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، كَانَتْ تَسْتَأْجِرُ الْرِّجَالَ فِيْ تِجَارَتِهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ بِأَمَانَةٍ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَعَرَّضَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِتِجَارَتِهَا إِلَىَ الْشَّامِ، وَتُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مَا تُعْطِىَ غَيْرِهِ، فَوَافَقَ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةٍ، وَتَاجِرا وَرِبْحَا، وَلَمَّا عَادا مِنْ الْتِّجَارَةِ، أَخْبَرَ مَيْسَرَةٍ سَيِّدَتِهِ خَدِيْجَةَ بِمَا لِمُحَمَّدِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَصَائِصِ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ ذَكِيَّةٍ، فَأَرْسَلَتْ تُخْطَبُ مُحَمَدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ جَاءَ عَمُّهُ أَبُوْ طَالِبٍ وَعَمَّهُ حَمْزَةَ وخَطَبَاهَا لِمُحَمَّدِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَزَوّجَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَدِيْجَةَ، وَكَانَتْ نَعَمْ الْزَّوْجَةُ الْصَّالِحَةُ، فَقَدْ نَاصَرْتُهُ فِيْ حَيَاتِهَا، وَبَذَلْتُ كُلِّ مَا تَمْلِكُ فِيْ سَبِيِلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْلَّهِ، وَقَدْ عَرَفَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُسْنِ تَدْبِيْرِهِ وَحَكَّمَتْهُ وَرَجَاحَةِ عَقْلِهِ فِيْ حِلٍّ الْمُشْكِلَاتِ، فَقَدْ أَعَادَتْ قُرَيْشٍ بِنَاءً الْكَعْبَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوَا فِيْمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مَكَانَهُ، حَتَّىَ كَادَتْ أَنْ تَقُوْمَ حَرْبٍ بَيْنَهُمْ، وَظَلُّوا عَلَىَ ذَلِكَ أَيَّاما، وَاقْتَرَحَ أَبُوْ أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيْرَةِ تَحْكِيْمِ أَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ثَوْبَ، ثُمَّ أَمَرَ بِوَضْعِ الْحِجْرُ فِيْ الْثَّوْبِ، وَأَنْ تَأْخُذَ كُلَّ قَبِيْلَةِ طَرَفا مِنَ الْثَّوْبِ، فَرَفَعُوهُ جَمِيْعا، حَتَّىَ إِذَا بَلَغَ الْمَوْضِعَ، وَضَعَهُ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْشَّرِيِفَةِ مَكَانَهُ، ثُمَّ بَنَىْ عَلَيْهِ، وَكَانَ آَنَذَاكَ فِيْ الْخَامِسَةِ وَالْثَّلاثِيْنَ مِنْ عُمْرِهِ.
وَلَمَّا قَرُبَتْ سَنَّ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْأَرْبَعِيْنَ، حُبِّبَتْ إِلَيْهِ الْعُزْلَةِ، فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِيْ غَارِ حِرَاءٍ، يُتَعَبَّدُ فِيْهِ، وَيَتَأَمَّلُ هَذَا الْكَوْنِ الْفَسِيحِ، وَفِيْ يَوْمِ مِنْ الْأَيَّامِ كَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ فِيْ غَارٍ حِرَاءٍ، فَجَاءَ جِبْرِيْلُ، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ.. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَهُ جِبْرِيْلُ فَضَمَّهُ ضَما شَدِيْدا ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَهُ جِبْرِيْلُ ثَانِيَةً وَضَمَّهُ إِلَيْهِ ضَما شَدِيْدا، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ لَهُ جِبْرِيْلُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عِلْمٍ الْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَقَ:1-5] _[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
فَكَانَ هَذَا الْحَادِثِ هُوَ بِدَايَةٍ الْوَحْيِ، وَلَكِنَّ رَّسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ مِمَّا حَدَثَ لَهُ، فَذَهَبَ إِلَىَ خَدِيْجَةَ وَطُلِبَ مِنْهَا أَنْ تُغَطِّيَهُ، ثُمَّ حَكَىَ لَهَا مَا حَدَثَ، فَطْمْأَنَتِهُ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْلَّهِ لَنْ يُضَيِّعَهُ أَبَدا، ثُمَّ ذَهْبَتِ بِهِ إِلَىَ ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَحَكَى لَهُ مَا رَأَىَ، فَبَشِّرْهُ وَرَقَةٍ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَمَنَّىْ أَنْ لَّوْ يَعِيْشُ حَتَّىَ يَنْصُرُهُ، لَكِنْ وَرَقَةٍ مَاتَ قَبْلَ الْرِّسَالَةِ، وَانْقَطَعَ الْوَحْىِ مُدَّةَ، فَحَزِنَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ الْوَحْىُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَقَدْ رَأَىَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيْلَ قَاعِدا عَلَىَ كُرّسِىٍ بَيْنَ الْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرَجَعَ مُسَرَّعا إِلَىَ أَهْلِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: زَمِّلُونِى، زَمِّلُونِى (أَىُّ غَطُوَنّىْ) فَأَنْزَلَ الْلَّهُ تَعَالَىْ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبُّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ} _[الْمُدَّثِّرُ: 1-5] ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْىِ بَعْدَ ذَلِكَ [الْبُخَارِىُّ].
وَبَعْدَ هَذِهِ الْآَيَاتِ الَّتِىْ نَزَلَتْ كَانَتْ بِدَايَةَ الْرِّسَالَةِ، فَبَدَأَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوَ الْأَقْرَبِيْنَ إِلَىَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ آَمَنَ خَدِيْجَةَ زَوْجَتِهِ، وَأَبُوْ بَكْرٍ صَدِيْقَهُ، وَعَلِيٌّ بِنُ أَبِىْ طَالِبٍ ابْنُ عَمِّهِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثُهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْنَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيْ دُخُوْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْزَلَ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَىَ رَسُوْلِهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الْأَقْرَبِيْنَ}_[الْشُّعَرَاءُ: 214]
فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْ الْلَّهِ أَنْ يَجْهَرَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْدَّعْوَةِ، فَجَمَعَ أَقَارِبِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَأَعْلَمُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مِنَ عِنْدَ الْلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُ الْلَّهِ تَعَالَىْ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِيْنَ} [الْحَجَرَ: 94]
قَامَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنْكِرُ عُبَادَةَ الْأَصْنَامَ، وَمَا عَلَيْهِ الْنَّاسُ مِنْ الضَّلَالَةِ، وَسَمِعْتُ قُرَيْشٍ بِمَا قَالَهُ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْهُمْ الْحَمِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ الَّتِىْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَحَاوَلُوْا أَنْ يَقِفُوْا ضِدَّ هَذِهِ الْدَّعْوَةِ الْجَدِيْدَةٍ بِكُلِّ وَسِيْلَةٍ، فَذَهَبُوا إِلَىَ أَبِىْ طَالِبٍ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمُ الْرَّسُوُلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَضَ، وَكَانُوْا يُشَوِّهُوْنَ صَوَّرْتُهُ لِلْحُجّاجِ مَخَافَةَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَكَانُوْا يَسْخَرُوْنَ مِنَ الَّرَّسُولِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ الْقُرْآَنَ، وَّيَتَّهِمُونَهُ بِالْجُنُوْنِ وَالْكَذِبَ، لَكِنْ بِاءَتْ مُحَاوَلَاتِهِمْ بِالْفَشَلِ، فَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ تَأْلِيْفُ شَىْءٍ كَالْقُرْآَنِ فَلَمْ يَسْتَطِيْعُوْا، وَكَانُوْا يُؤْذُوْنَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ الْإِيْذَاءِ كَىَ يَرُدُّوهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ الْنَّتِيجَةُ أَنْ تُمْسِكَ الْمُسْلِمُوْنَ بِدِيْنِهِمْ أَكْثَرَ.
وَكَانَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ بِالْمُسْلِمِيْنَ سِرا فِيْ دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِىْ الْأَرْقَمِ يَعْلَمُهُمْ أُمُوْرِ الْدِّيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ فَتْرَةٍ أَنْ يُهَاجِرُوْا إِلَىَ الْحَبَشَةِ، فَهَاجَرَ عَدَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ إِلَىَ الْحَبَشَةِ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَىَ الْنَّجَاشِىِّ يَرُدُّهُمْ، لَكِنَّ الْلَّهَ نَصَرَ الْمُسْلِمِيْنَ عَلَىَ الْكُفَّارِ؛ فَرَفَضَ الْنَّجَاشِىِّ أَنَّ يُسَلِّمُ الْمُسْلِمِيْنَ وَظَلُّوا عِنْدَهُ فِيْ أَمَانِ يَعْبُدُوْنَ الْلَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُوْنَ مُسَاوَمَةِ أَبِىْ طَالِبٍ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِأَنَّ يُسَلِّمُ لَهُمْ مُحَمَّدا إِلَّا أَنَّهُ أَبِىْ إِلَا أَنْ يَقِفَ مَعَهُ، فَحَاوَلُوْا قُتِلَ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ الْلَّهَ مَنَعَهُ وَحِفْظِهِ.
وَفِيْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْعَصِيبَةٌ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَانَا مَنَعَةٌ وَحِصْنا لِلْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِيْنَ لَمْ يَكُفُّوا عَنْ الْتَفْكِيْرِ فِيْ الْقَضَاءِ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا عَلِمَ أَبُوْ طَالِبٍ بِذَلِكَ جَمَعَ بَنِيَّ هَاشِمٍ وَبَنِيَّ عَبْدِالْمُطَّلِبِ وَاتَّفَقُوْا عَلَىَ أَنَّ يَمْنَعُوْا الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُصِيْبُهُ أَذَىً، فَوَافَقَ بَنُوْ هَاشِمٍ وَبَنُوْ عَبْدِالْمُطَّلِبِ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إِلَّا أَبَا لَهَبٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ قُرَيْشٍ، فَاتَّفَقَتْ قُرَيْشٍ عَلَىَ مُقَاطَعَةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَمَعَهُمْ بَنُوْ هَاشِمٍ وَبَنُوْ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَكَانَ الْحِصَارِ فِيْ شِعْبٍ أَبِىْ طَالِبٍ ثَلَاثٍ سَنَوَاتٍ، لَا يُتَاجِرُوْنَ مَعَهُمْ، وَلَا يَتَزَوَّجُونَ مِنْهُمْ، وَلَا يُجَالِسُّونَهُمْ وَلَا يُّكَلِّمُوْنَهُمْ، حَتَّىَ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ، وَنَادَوْا فِيْ قُرَيْشٍ أَنَّ يَنْقُضُوا الْصَّحِيْفَةِ الَّتِىْ كَتَبُوْهَا، وَأَنْ يُعِيْدُوْا الْعَلَاقَةٌ مَعَ بَنِيَّ هَاشِمٍ وَبَنِيَّ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَوَجَدُوْا الْأَرَضَةُ أَكَلَتْهَا إِلَا مَا فِيْهَا مِنْ اسْمٍ الْلَّهِ.
وَتَرَاكَمَتْ الْأَحْزَانُ فِيْمَا بَعْدُ لِوَفَاةِ أَبِىْ طَالِبٍ عَمِّ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجِهِ خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، فَقَدْ ازْدَادَ اضْطِهَادٌ وَتَعْذِيْبُ الْمُشْرِكِيْنَ، وَفَكَّرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ مَكَّةَ إِلَىَ الْطَّائِفِ يَدْعُوَ أَهْلُهَا إِلَىَ الْإِسْلَامِ، إِلَا أَنَّهُمْ كَانُوْا أَشْرَارا، فَأَهَانُوا الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدَ ابْنِ حَارِثَةَ الَّذِيْ كَانَ مَعَهُ، وَأَثْنَاءَ عَوْدَتِهِ بَعَثَ الْلَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ اسْتَمِعُوَا إِلَىَ الْقُرْآَنِ الْكَرِيْمِ، فَآَمِنُوا.
وَأَرَادَ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ يُخَفَّفُ عَنْ الْرَّسُولَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ رِحْلَةٌ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَالَّتِى فُرِضَتْ فِيْهَا الْصَّلَاةُ، خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِيْ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسٍ الْنَّبِيّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الرِّحْلَةِ، لِيَبْدَأَ مِنْ جَدِيْدٍ الْدَّعْوَةِ إِلَىَ الْلَّهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْلَّهَ مَعَهُ لَنْ يَتْرُكَهُ وَلَا يَنْسَاهُ، فَكَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ فِيْ مَوْسِمِ الْحَجِّ يَدْعُوَ الْنَّاسَ إِلَىَ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ رَسُوْلُ الْلَّهِ، فَآَمَنَ لَهُ فِيْ الْسُّنَّةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ النُّبُوَّةِ عَدَدَ قَلِيْلٌ، وَلَمَّا كَانَتْ الْسُّنَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْنُّبُوَّةِ أَسْلَمَ سِتَّةِ أَشْخَاصٍ مِنْ يَثْرِبَ كُلُّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ حُلَفَاءَ الْيَهُوْدُ، وَقَدْ كَانُوْا سَمِعُوْا مِنَ الْيَهُوْدِ بِخُرُوْجِ نَبِيَّ فِيْ هَذَا الْزَّمَانِ، فَرَجَعُوَا إِلَىَ أَهْلِيْهِمْ، وَأَذَاعُوْا الْخَبَرَ بَيْنَهُمْ.
وَعَادُوْا الْعَامِّ الْقَادِمْ وَهْمٌ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فِيْهِمْ خَمْسَةُ مِمَّنْ حَضَرَ الْعَامَ الْمَاضِىْ وَبِايِّعُوْا رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفْتُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ بِبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُوْلَىْ فَرَجَعُوَا وَأَرْسَلَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لِيُعَلِّمَهُمْ أُمُوْرٍ دِيْنَهُمْ، وَقَدْ نَجَحَ مُصْعَبٍ بْنِ عُمَيْرٍ نَجَاحا بَاهِرا، فَقَدِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْعُوَا كِبَارِ الْمَدِيْنَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، حَتَّىَ آَمَنَ عَدَدُ كَبِيْرٌ مِنْهُمْ، وَفِيْ الْسَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْنُّبُوَّةِ، جَاءَ بِضْعٌ وَسَبْعُوْنَ نَفْسا مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ فِيْ مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَالْتَقَوْا بِرَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعُوْهُ بَيْعَةً الْعَقَبَةِ الْثَّانِيَةِ، وَتَمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَىَ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ.
وَأْمُرْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا الْصَّحَابَةِ أَنْ يُهَاجِرُوْا إِلَىَ يَثْرِبَ، فَهَاجَرَ مَنْ قَدَّرَ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ، وَبَقَى رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُوْ بَكْرٍ وَعَلَىَ وَبَعْضُ الضُّعَفَاءِ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ الْهِجْرَةِ، وَسَمِعْتُ قُرَيْشٍ بِهِجْرَةِ الْمُسْلِمِيْنَ إِلَىَ يَثْرِبَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّ مُحَمَّدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابُدَّ أَنْ يُهَاجِرَ، فَاجْتَمَعُوْا فِيْ دَارِ الْنَّدْوَةِ لُمُحَاوَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- نَجَّاهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَهَاجَرَ هُوَ وَأَبُوْ بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عَلِيا مَكَانَهُ لِيَرُدَّ الْأَمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا.
وَهَاجَرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُوْ بَكْرٍ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ، وَاسْتَقْبَلَهُمَا أَهْلِ الْمَدِيْنَةِ بِالْتِرْحَابِ وَالْإِنْشَادِ، لِتَبْدَأَ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ مَرَاحِلُ الْدَّعْوَةِ، وَهِيَ الْمَرْحَلَةِ الْمَدِنِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ انْتَهَتْ الْمَرْحَلَةِ الْمَكِّيَّةِ، وَقَدْ وَصَلْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِيْنَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (12 رَبِيْعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ 1هِـ/ الْمُوَافِقُ 27 سَبْتَمْبَرْ سُنَّةَ 622مْ)
وَنَزَلَ فِيْ بَنِيَّ النَّجَّارِ، وَعَمِلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَىَ تَأْسِيْسْ دَوْلَةً الْإِسْلامُ فِيْ الْمَدِيْنَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا صَنَعَهُ أَنْ بَنَىْ الْمِسْجِدْ الْنَّبَوِىِّ، لِيَكُوْنَ دَارِ الْعِبَادَةِ لِلْمُسْلِمِيْنَ، ثُمَّ آَخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَالْأَنْصَارِ، كَمَا كُتِبَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاهَدَةً مَعَ الْيَهُوْدِ الَّذِيْنَ كَانُوْا يَسْكُنُوْنَ الْمَدِيْنَةِ.
وَبَدَأَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْتَنَى بِبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ دَاخِلِيا، كَىْ يَكُوْنْ صَفا وَاحِدا يُدَافِعُ عَنِ الْدَّوْلَةِ الْنَّاشِئَةِ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِيْنَ بِمَكَّةَ لَمْ تَهْدَأْ ثَوْرَتَهُمْ، فَقَدْ أَرْسَلُوْا إِلَىَ الْمُهَاجِرِيْنَ أَنَّهُمْ سَيَأْتُونَهُمْ كَىَ يَقْتُلُوَهُمْ، فَكَانَ لَابُدَّ مِنْ الْدِّفَاعِ، فَأَرْسَلَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَدا مِنْ الَسَّرَايَا، كَانَ الْغَرَضِ مِنْهَا التَّعَرُّفِ عَلَىَ الْطُّرُقِ الْمُحِيْطَةِ بِالْمَدِيْنَةِ، وَالْمَسَالِكِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَىَ مَكَّةَ، وَعَقَدَ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ القَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ وَإِشْعَارِ كُلِّ مَنْ مُشْرِكِى يَثْرِبَ وَالْيَهُوْدِ وَعَرَّبَ الْبَادِيَةِ وَالْقُرَشِيِّينَ أَنْ الْإِسْلَامِ قَدْ أَصْبَحَ قَوِيا.
وَكَانَتْ مِنَ أَهُمْ الْسَّرَايَا الَّتِىْ بَعَثَهَا رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ سَرَّيَّةِ سَيْفٌ الْبَحْرِ، وَسَرِّيَّةِ رَابِغَ، وَسَرِّيَّةِ الْخَرَّارِ، وَسَرِّيَّةِ الْأَبْوَاءِ، وَسَرِّيَّةِ نَخْلَةٌ، وَفِيْ شَهْرِ شَعْبَانُ مِنْ الْسَنَةِ الْثَّانِيَةُ الْهِجْرِيَّةُ فَرَضَ الْلَّهُ الْقِتَالَ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَنَزَلَتْ آَيَاتِ تُوَضِّحُ لَهُمْ أَهَمِّيَّةِ الْجِهَادِ ضِدَّ أَعْدَاءِ الْإِسْلامِ، وَفِيْ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَمْرٍ الْلَّهِ -سُبْحَانَهُ- رَسُوُلِهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْوِيْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ هَذَا إِيْذَانا بِبَدْءِ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ فِيْ حَيَاةِ الْمُسْلِمِيْنَ خَاصَّةً، وَالْبَشَرْيَّةِ عَامَّةً.
بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، وَتَحَرُّشٍ الْمُشْرِكِيْنَ بِهِمْ، كَانَ لَابُدَّ مِنْ الْقِتَالِ فَكَانَتْ عِدَّةَ لِقَاءَاتْ عَسْكَرِيَّةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، أَهَمِّهَا: غَزْوَةٍ بَدْرٍ الْكُبْرَىَ فِيْ الْعَامِ الْثَّانِىَ الْهَجَرِىِّ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ بِقَافِلَةٍ تِجَارِيَّةٌ كَبِيْرَةً عَلَىَ رَأْسِهَا أَبُوْ سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَقَدْ خَرَجَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ ثَلَاثِمِائَةِ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا لِقَصْدِ هَذِهِ الْقَافِلَةُ، لَكِنْ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يَتَحَسَّسُ الْخَبَرَ فَأَرْسَلَ رَجُلا إِلَىَ قُرَيْشٍ يَعْلَمُهُمْ بِمَا حَدَثَ، ثُمَّ نَجَحَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيْ الْإِفْلَاتَ بِالْعَيْرِ وَالْتِّجَارَةِ، وَاسْتَعَدْتُ قُرَيْشٍ لِلْخُرُوْجِ، فَخَرَجَ أَلْفِ وَثَلَاثِمِائَةٍ رَجُلٌ، وَأَرْسَلَ أَبُوْ سُفْيَانَ إِلَىَ قُرَيْشٍ أَنَّهُ قَدْ أَفْلَتَ بِالْعَيْرِ، إِلَا أَنْ أَبَا جَهْلٍ أَصَرَّ عَلَىَ الْقِتَالِ، فَرَجَعَ بِنُوُ زَهْرَةَ وَكَانُوْا ثَلَاثَمِائَةٍ رَجُلٌ، وَاتَّجَهَ الْمُشْرِكُوْنَ نَاحِيَةٍ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُوْنَ قَدْ سَبَقُوْهُمْ إِلَيْهَا بَعْدَ اسْتِطِّلاعَاتِ وَاسْتِكِشَافَّاتِ.
وَبَدَأَتْ الْحَرْبِ بِالْمُبَارَزَةِ بَيْنَ رِجَالِ مَنْ الْمُشْرِكِيْنَ وَرِجَالٌ مَنْ الْمُهَاجِرِيْنَ، قُتِلَ فِيْهَا الْمُشْرِكُوْنَ، وَبَدَأَتْ الْمَعْرَكَةِ، وَكَتَبَ الْلَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْمُسْلِمِيْنَ فِيْهَا الْنَّصْرُ وَلِلْكُفّارِ الْهَزِيْمَةِ، وَقَدْ قُتِلَ الْمُسْلِمُوْنَ فِيْهَا عَدَدا كَبِيْرا، كَمَا أَسَرُّوْا آُخَرِيْنَ، وَبَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ عِلْمٍ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِيَّ سُلَيْمٍ مِنْ قَبَائِلِ غَطَفَانَ تَحْشُدُ قُوَّاتِهَا لِغَزْوِ الْمَدِيْنَةِ، فَأَسْرَعَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ مِائَتَىْ رَجُلٍ وَهَاجَمَهُمْ فِيْ عُقْرِ دَارِهِمْ، فَفِرُّو?ا بَعْدَ أَنْ تَرَكُوْا خَمْسَمِائَةِ بَعِيْرٍ اسْتَوْلَىَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُوْنَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِيْ شَوَّالٍ (2هِـ) بَعْدَ بَدْرٍ بَسَبْعَةِ أَيَّامِ، وَعَرَفْتُ بِغَزْوَةٍ بَنِيَّ سُلَيْمٍ.
وَرَأَتْ الْيَهُوْدِ فِيْ الْمَدِيْنَةِ نَصْرُ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَاظُوا لِذَلِكَ، فَكَانُوْا يُثِيْرُونَ القَلَاقِلِ، وَكَانَ أَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً بَنُوْ قَيْنُقَاعَ، فَجَمَعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُوْدَ بِالْمَدِيْنَةِ وَنُصْحِهِمْ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، إِلَا أَنَّهُمْ أَبْدَوْا اسْتِعْدَادِهِمْ لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَكَظّمْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْظَهُ، حَتَّىَ تُسَبِّبُ رَجُلٌ مِنْ بَنِيَّ قَيْنُقَاعَ فِيْ كَشْفِ عَوْرَةَ امْرَأَةِ، فَقَتَلَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِيْنَ، فَقُتِلَ الْيَهُوْدُ الْمُسْلِمِ فَحَاصَرَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عَنْ الْمَدِيْنَةِ بِسَبَبِ إِلْحَاحُ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ أَبِىْ بْنِ سَلُوْلٍ.
وَفِيْ ذِيْ الْحِجَّةِ سَنَةَ (2هِـ) خَرَجَ أَبُوْ سُفْيَانَ فِيْ نَفَرٍ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ، فَأُحَرِّقَ بَعْضٍ أَسْوَارِ مَنْ الْنَّخِيلِ، وَقُتِّلُوْا رَجُلَيْنِ، وَفِّرُوْا هَارِبِيْنَ، فَخَرَجَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أَثَرِهِمْ، إِلَا أَنَّهُمْ أَلْقَوْا مَا مَعَهُمْ مِنَ مَتَاعُ حَتَّىَ اسْتَطَاعُوْا الْإِسْرَاعُ بِالْفِرَارِ وَعَرَفْتُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِغَزْوَةٍ الْسَّوِيُّقَ، كَمَا عَلَّمَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَفَرا مِنْ بَنِيَّ ثَعْلَبَةَ وَمُحَارِبٌ تَجْمَعُوْا يُرِيْدُوْنَ الْإِغَارَةِ عَلَىَ الْمَدِيْنَةِ، فَخَرَجَ لَهُمْ الْرَسَوُلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّىَ وَصَلَ إِلَىَ الْمَكَانِ الَّذِيْ تَجْمَعُوْا فِيْهِ، وَكَانَ يُسَمَّىْ بِـ(ذِيْ أَمْرِ) فَفِرُّو?ا هَارِبِيْنَ إِلَىَ رُءُوْسِ الْجِبَالِ، وَأَقَامَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرا لِيُرْهِبُ الْأَعْرَابِ بِقُوَّةٍ الْمُسْلِمِيْنَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِيْ أَوَائِلِ صَفَرَ سُنَّةَ (3هِـ).
وَفِيْ جُمَادَىْ الْآَخِرَةِ سَنَةً (3هِـ) خَرَجَتْ قَافِلَةِ لِقُرَيْشٍ بِقِيَادَةِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَمَعَ أَنَّ الْقَافِلَةِ اتَّخَذْتُ طَرِيْقا صَعْبا لَا يَعْرِفُ، إِلَا أَنْ الْنَّبَأِ قَدْ وَصَلَ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ وَخَرَجْتُ سَرَّيَّةِ بِقِيَادَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، اسْتَوْلَتْ عَلَىَ الْقَافِلَةِ وَمَا فِيْهَا مِنْ مَتَاعٍ، وَفِّرْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَمَنْ مَّعَهُ، اغْتَاظَ كُفَّارٌ مَكَّةَ مِمَّا حَدَثَ لَهُمْ فِيْ غَزْوَةٍ بَدْرٍ، فَاجْتَمَعُوْا عَلَىَ الاسْتِعْدَادِ لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، وَقَدْ جَعَلُو?ا الْقَافِلَةِ الَّتِىْ نَجَا بِهَا أَبُوَسُفْيَانَ لِتَمْوِيلِ الْجَيْشِ وَاسْتَعَدْتُ الْنِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ لِلْخُرُوْجِ مَعَ الْجَيْشِ لتَحُمِيْسَ الْرِّجَالِ، وَقَدْ طَارَتْ الْأَخْبَارِ إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ بِاسْتِعْدَادِ الْمُشْرِكِيْنَ لِلْقِتَالِ، فَاسْتَشَارَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْصَّحَابَةِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ -بَدْءا- أَنَّ يَبْقُوْا فِيْ الْمَدِيْنَةِ، فَإِنَّ عَسْكَرِ الْمُشْرِكُوْنَ خَارِجَهَا، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوْا مِنْهُمْ شَيْئا، وَإِنْ غَزَوَا الْمَدِيْنَةِ، قَاتِلُوْهُمْ قِتَالِا شَدِيْدا.
إِلَا أَنَّ بَعْضَ الْصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِتَالِ فِيْ بَدْرٍ، أَشَارُوْا عَلَىَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوْجَ مِنَ الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ عَلَىَ رَأْسِ الْمُتَحَمِّسِيْنَ لِلْخُرُوْجِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَلَبِسَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْحَرْبِ، وَخَرَجَ الْجَيْشِ وَفِيْهِ أَلْفَ مُقَاتِلُ، وَاتَّخَذَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانا قَرِيْبا مِنْ الْعَدُوّ عِنْدَ جَبَلِ أُحُدٍ، وَمَا كَادَ وَقْتِ الْمَعْرَكَةِ أَنَّ يَبْدَأُ حَتَّىَ تَرَاجَعَ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ أَبِىْ سَلُوْلَ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، بِزَعْمٍ أَنْ الْرَّسُوْلَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ عَلَىَ الْخُرُوْجِ، وَمَا أَرَادَ بِفِعْلَتِهِ إِلَا بَثَّ الْزَّعْزَعَةُ فِيْ صُفُوْفِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَبَقِىَ مِنْ الْجَيْشِ سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ عَدَدُ الْمُشْرِكِيْنَ ثَلَاثَةِ
آَلَافِ مُقَاتِلُ.
وَاتَّخَذَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانا مُتَمَيِّزا فِيْ الْمَعْرَكَةِ، وَجَعَلَ بَعْضٍ الْمُقَاتِلِيْنَ فِيْ الْجَبَلِ، وَهُوَ مَا عُرِفَ فِيْمَا بَعْدُ بِجَبَلِ الْرُّمَاةُ، وَأُمِّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَالَلَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمُوْا ظُهُوْرِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَأَلَا يَنْزِلُوْا مُهِمَّا كَانَ الْأَمْرُ، سَوَاءُ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُوْنَ أَمْ انْهَزَمُوَا، إِلَا إِذَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَدَأَتْ الْمُبَارَزَةِ بَيْنَ الْفَرِيْقَيْنِ، وَقَتْلُ فِيْهَا الْمُسْلِمُوْنَ عَدَدا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَكَانَ مُعْظَمُهُمْ مِمَّنْ كَانُوْا يَحْمِلُوْنَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِيْنَ، حَتَّىَ أَلْقَىَ الْلِّوَاءِ عَلَىَ الْأَرْضِ، وَاسْتَبْسَلَ الْمُسْلِمُوْنَ وَقَاتَلُوا قِتَالا شَدِيْدا، وَاسْتَبْسَلَ مِنْ كَانُوْا عَلَىَ الْجَبَلِ.
إِلَا أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْمُسْلِمِيْنَ يَجْمَعُوْنَ الْغَنَائِمِ نَزَلُوْا، فَذَكَّرَهُمْ قَائِدَهُمْ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوْا لَهُ، وَلَاحَظَ خَالِدٍ بْنِ الْوَلِيّدِ، فَرَجَعَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَطُوِّقَ جَيْشٍ الْمُسْلِمِيْنَ، وَاضْطَرَبَتْ الْصُّفُوفَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُوْنَ مِنْ الْمُسْلِمِيْنَ سَبْعِيْنَ رَجُلا وَاقْتَرَبَوْا مِنْ رَّسُوْلٍ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِيْ أُصِيْبَ بِبَعْضٍ الْإِصَابَاتُ، وَالَّذِي حَاوَلَ الْمُشْرِكُوْنَ قَتَلَهُ لَوْلَا بَسَالَةٌ بَعْضٌ الْصَّحَابَةِ مِمَّنْ دَافِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَيِّعُ قُتِلَ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ انْتَشَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِيْنَ كَذَّبَ الْخَبَرْ، فَتَجَمَّعُوْا حَوْلَهُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَطَاعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَرِقَ طَرِيْقا وَيَنْجُوَ بِمَنْ مَعَهُ، وَصَعِدُوا الْجَبَلِ، وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُوْنَ قِتَالِهِمْ، إِلَا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيْعُوْا، فَرَجَعُوَا وَخَشِىَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْرِكُوْنَ، فَخَرَجَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِيْ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَحَسْبُ، وَلَمْ يَقْبَلْ غَيْرِهِمْ إِلَا عَبْدِالْلَّهِ بْنِ جَابِرٍ فَقَدْ قَبِلَ عُذْرُهُ.
وَخَرَجَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْصَّحَابَةِ حَتَّىَ وَصَلُوْا إِلَىَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَقَدْ أَقْبَلَ مَعْبَدِ بْنِ أَبِىْ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ وَأَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَخَادَعَةً أَبِىْ سُفْيَانَ إِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ الْرُّجُوْعَ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَفِيْ طَرِيْقِ الْعَوْدَةِ اتَّفَقَ الْمُشْرِكُوْنَ عَلَىَ الْرُّجُوْعِ، فَقَابِلْهُمْ مَعْبَدِ بْنِ أَبِىْ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوْ سُفْيَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدا صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ جَيْشا كَبِيْرا لِقِتَالِكُمْ، كَىَ يَسْتَأْصِلُكُمْ، فَارْجِعُوَا، وَأَحْدَثَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ زَعْزَعَةُ فِيْ صُفُوْفِ الْمُشْرِكِيْنَ.
وَبَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، بَعَثَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْسَّرَايَا لِتَّأْدِيبَ مِنَ يُرِيْدُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ، كَسَرِيِّةٍ أَبِىْ سَلَمَةَ فِيْ هِلَالِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ (4هِـ) إِلَىَ بَنِيَّ أَسَدٍ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَبَعَثَ عَبْدِاللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ لِخَالِدٍ بْنِ سُفْيَانَ الَّذِيْ أَرَادَ حَرْبٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَأَتَىَ عَبْدِاللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ بِرَأْسِهِ لِرَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيْ بَعَثَ الْرَّجِيْعِ قُتِلَ بَعْضُ الْصَّحَابَةِ، وَفِيْ الْسَّنَةِ نَفْسِهِا، بَعَثَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْصَّحَابَةِ لِأَهْلِ نَجْدٍ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَىَ الْإِسْلَامِ، وَفِيْ الْطَّرِيْقِ عِنْدَ بِئْرِ مَعُوْنَةَ أَحَاطَ كَثِيْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِيْنَ بِالْمُسْلِمِيْنَ، وَقتلُوْا سَبْعِيْنَ مِنْ الْصَّحَابَةِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْخَبَرِ، حُزْنٍ حَزَنا شَدِيْدا، وَدَعَا عَلَىَ الْمُشْرِكِيْنَ.
وَكَانَتْ يُهَوَّدُ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ يُرَاقِبُوْنَ الْمَوْقِفِ، وَيَسْتَغِلُّونَ أَىُّ فُرْصَةً لِإِشْعَالِ الْفِتْنَةِ وَكَانَ بَعْضُ الْصَّحَابَةِ قَدْ قَتَلُوَا اثْنَيْنِ خَطَأً مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ بُنَوْدِ الْمِيْثَاقَ بَيْنَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُوْدِ، أَنَّ يُسَاعِدُ كُلَّ مَنْ الْطَّرَفَيْنِ الْآَخِرَ فِيْ دَفْعِ الْدِّيَةُ، فَلَمَّا ذَهَبَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ حَاوَلُوا قَتَلَهُ، إِلَّا أَنَّ الْلَّهَ سُبْحَانَهُ حَفِظَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيْلُ، يُخْبِرُهُ بِمَا يُرِيْدُوْنَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوْا، وَلَكِنَّ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ أَبِىْ وَعِدْهُمْ بِالْمُسَاعَدَةِ، فَرَفَضُوا الْخُرُوْجَ، وَحَاصَرَهُمْ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةً أَيَّامٍ، وَبَعْدَهَا قَرَّرُوْا الْخُرُوجِ عَلَىَ أَنْ يَأْخُذُوَا مَتَاعَهُمْ، وَاسْتَثْنَىً رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُمْ، فَأَخَذَهُ، وَأَخَذَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، فَتَفَرَّقَ يُهَوَّدُ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ فِيْ الْجَزِيْرَةِ.
وَفِيْ شَعْبَانَ مِنْ الْعَامِ الْرَّابِعُ الْهِجْرِيّ خَرَجَ الْرَّسُوْلُ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أَلْفَ وَخَمْسِمِائَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، لِمُلْاقَاةِ أَبِىْ سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، كَمَا اتَّفَقُوْا فِيْ غَزْوَةِ أُحُدٍ إِلَا أَنْ أَبَا سُفْيَانَ خَافَ، فَتَرَاجَعَ هُوَ وَجَيْشُهُ خَوْفا مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، وَيُسَمَّى هَذَا الْحَادِثِ بِغَزْوَةٍ بَدْرٍ الْصُّغْرَىْ أَوْ بَدْرَ الْآَخِرَةِ، وَطَارَتْ الْأَنْبَاءِ إِلَىَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَبَائِلَ حَوْلَ دُوْمَةَ الْجَنْدَلِ تَحْشُدُ جَيْشا لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَخَرَجَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ جَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وفَاجَأَهُمْ، فَفِرُّو?ا هَارِبِيْنَ وَكَانَ ذَلِكَ فِيْ أَوَاخِرِ رَبِيْعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ (5هِـ) وَبِذَا فَقَدْ اسْتَطَاعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُدّ كُلِّ عُدْوَانَ، حَتَّىَ يَتَسَنَّى لَهُ الْأَمْرَ لِتَبْلِيْغِ دَعْوَةَ الْلَّهِ.
وَلَمْ تَنْسَ الْيَهُوْدُ تِلْكَ الْهَزَائِمَ الَّتِىْ لَحِقَتْ بِهَا، لَكِنَّهَا لَا تَسْتَطِيْعُ مُوَاجَهَةِ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ يُهَوَّدُ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ يَأَلِبُونَ الْمُشْرِكِيْنَ فِيْ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّىَ اجْتَمَعَ عَشْرَةَ آَلَافِ مُقَاتِلُ، وَقَدْ عُلِمَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَاسْتَشَارَ الْصَّحَابَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِىُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ، فَحُفِرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْصَّحَابَةِ الْخَنْدَقِ شَمَالِ الْمَدِيْنَةِ، لِأَنَّهُ الْجِهَةِ الْوَحِيدَةْ الَّتِىْ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِىَ الْأَعْدَاءِ مِنْهَا.
وَذَهَبَ زَعِيْمٌ بَنِيَّ الْنَّضِيْرِ حُيَىٍّ بْنِ أَخْطَبَ إِلَىَ زَعِيْمٌ بَنِيَّ قَيْنُقَاعَ الْمُتَحَالِفَةِ مَعَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَهُ يَنْقُضُ الْعَهْدَ، إِلَا أَنْ الْلَّهُ حُمَّىْ الْمُسْلِمِيْنَ وَحَفِظَهُمْ فَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ بْنِ مَسْعُوْدٍ الَّذِيْ أَوْقَعَ الْدُسّيْسَة بَيْنَ الْيَهُوْدِ وَقُرَيْشٌ، وَجَعَلَ كُلَّا مِنْهُمُ يَتَشَكَّكُ فِيْ الْآَخَرِ، وَأَرْسَلَ الْلَّهُ عَلَيْهِمْ رِيْحا شَدِيْدَةً دُمِّرَتْ خِيَامِهِمْ، وَأَطْفَأْتَ نِيْرَانِهِمْ؛ فَاضْطِرُوا إِلَىَ الْرَّحِيْلِ وَالْفِرَارُ، وَقَالَ بَعْدَهَا الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْآَنَ نَغْزُوَهُمْ وَلَا يَغْزُوْنَنَا) وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِغَزْوَةٍ الْخَنْدَقِ أَوْ الْأَحْزَابُ، وَكَانَتْ فِيْ الْعَامِ الْخَامِسْ الْهَجَرِىِّ.
وَقَبْلَ أَنْ يَخْلَعَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَلَابِسِ الْحَرْبِ، جَاءَهُ جِبْرِيْلُ، وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَذْهَبْ لِغَزْوِ بَنِيَّ قُرَيْظَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَتَحَرَّكَ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِىُّ وَكَانَ عَدَدُهُ ثَلَاثَةٌ آَلَافِ مُقَاتِلُ وَحَاصَرَ الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ قُرَيْظَةَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَئِيْسُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ثَلَاثَ اقْتِرَاحَاتٍ؛ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمُوْا فَيَأَمَنُوا عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوَا ذَرَارِيَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُوْا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَإِمَّا أَنْ يَهْجُمُوْا عَلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْسَّبْتِ؛ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُجِيْبُوهُ إِلَىَ شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَعْدَ الْرَّفْضِ إِلَا أَنْ يَنْزِلُوْا عَلَىَ حُكْمِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثُوا إِلَىَ أَبِىْ لُبَابَةَ بْنُ الْمُنْذِرِ-وَكَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ- لِيُخْبِرَهُمْ عَنْ حُكْمِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَىَ أَبُوْ لُبَابَةَ بَنِيَّ قُرَيْظَةَ رَقَّ قَلْبُهُ إِلَيْهِمْ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ إِلَىَ حَلْقِهِ كِنَايَةٌ عَنْ الْقَتْلِ، وَعَلَّمَ أَبُوْ لُبَابَةَ أَنَّهُ خَانَ الْلَّهَ وَرَسُوْلَهُ، فَذَهَبَ إِلَىَ مَسْجِدِ الْنَّبِيِّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبَطَ نَفْسَهُ، وَأَقْسَمَ أَلَا يَفُكُّهُ أَحَدٌ إِلَّا الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنَزَلَتْ الْيَهُوْدُ عَلَىَ حُكْمِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقَ أَنْ يَحْكُمَ فِيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ بِأَنْ يُقْتَلَ الْرِّجَالُ، وَتُسْبَى الْنِّسَاءُ وَالذَّرَارِيِّ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ الْلَّهِ فِيْهِمْ، وَكَانَتْ الْغَزْوَةِ فِيْ ذِيْ الْقَعْدَةِ مِنْ الْعَامِ الْخَامِسُ الْهَجَرِىِّ، وَبَعْدَ غَزْوَةِ بَنِيَّ قُرَيْظَةَ بَعَثَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قُتِلُوَا سَلَامٌ بْنِ أَبِىْ الْحُقَيْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْيَهُوْدِ الَّذِيْنَ أَثَارُوْا الْأَحْزَابُ ضِدَّ الْمُسْلِمِيْنَ.
وَفِيْ شَعْبَانَ مِنْ الْعَامِ الْسَّادِسُ الْهَجَرِيِّ عِلْمٍ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ زَعِيْمٌ بَنِيَّ الْمُصْطَلِقِ جَمَعَ قَوْمَهُ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَرَبِ لِّقِتَالٍ الْمُسْلِمِيْنَ، فَتَأَكَّدْ رَسُوْلُ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَبَرِ، وَخَرَجَ فِيْ عَدَدِ مِنْ الْصَّحَابَةِ، حَتَّىَ وَصَلَ مَاءً الْمُرَيْسِيْعَ، فَفَرَّ الْمُشْرِكُوْنَ، وَاسْتَوْلَىَ الْمُسْلِمُوْنَ عَلَىَ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَفِيْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَتْ حَادِثَةً الْإِفْكِ الَّتِىْ افْتُرِىٍ فِيْهَا عَلَىَ الْسَيِّدَةُ عَائِشَةَ، وَاتُهِمَتْ بِالْخِيَانَةِ، فَأَنْزَلَ الْلَّهُ -سُبْحَانَهُ- بَرَاءَتَهَا فِيْ قُرْآَنٍ يُتْلَىَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَرَادَ الْمُنَافِقُوْنَ أَنْ يَدسّوا الْفِتْنَةِ ب