محمد علي
"رُبَ يوم بكيتُ منه، فلما صرتُ في غيره بكيتُ عليه"
ربما تلخصُ هذه المقولة تلك العلاقة الغريبة بين المصريين ومحمد علي باشا. فالثابت أن أبناء المحروسة في عصر محمد علي (1769-1849)، والي مصر (1805-1849)، لم يحبوه، بعد أن تحول إلى الزارع الوحيد وكذلك الصانع الوحيد، فتركزت الثروة في يده، حتى أصبح بلا منازع أغنى رجل في مصر
ولم يغفر له أبناء عصره أنه هو الذي نفى الزعيم الوطني عمر مكرم خارج القاهرة وصادر أملاك المشايخ والأعيان والتجار واستولى على أوقافهم، ودبر أشهر مذبحة في تاريخ مصر وهي مذبحة المماليك، وفاق استبدادُه الولاة العثمانيين السابقين له في الحكم منذ عام ١٥١٧
غير أن محمد علي المولود في مدينة قولة شمال اليونان، أصبح الآن في كتابات كثيرين صاحب مشروع نهضوي فريد من نوعه، بالرغم من أن تجربة محمد علي ليست - كما يرى المفكر الدكتور برهان غليون- إلا "نهضة البعض واختناق الآخرين"
لقد انفرد محمد علي بالسلطة، وفرض نفسه كمالكٍ فعلي وحيد للبلاد، وكسيد لمصائرها الحيوية. ففي عام 1808، وبعد مضي ثلاثة أعوام فقط من حكمه، أصبح مالكاً لجميع أراضي القطر المصري، كما احتكرت الدولة في عصره تجارة المحاصيل الزراعية والسلع الصناعية) د. ذوقان قرقوط، جوانب غير معروفة من تجربة محمد علي باشا، مجلة "الوحدة" ـ الرباط، السنة الثالثة، العدد 31/32/ نيسان أبريل، وأيار مايو 1987، ص 101 ـ 114)
وليس بمستغربٍ أن تكون رؤية محمد علي لمصر على أنها من أملاكه، حتى أنه أصدر مرسوماً لأحد حكام الأقاليم جاء فيه "البلاد الحاصل فيها تأخير في دفع ما عليها من البقايا أو الأموال يضبط مشايخها ويرسلون للومان (السجن) والتنبيه على النظار بذلك، وليكن معلوماً لكم ولهم أن مالي لا يضيع منه شيء بل آخذه من عيونهم"
"مالي"، هي مفتاح فهم شخصية وسياسات محمد علي
ولفرط ضخامة ثروة محمد علي وقع خلافٌ بين أفراد أسرته بعد وفاته بشأن تقسيم الميراث، مع أنه منح أفراد أسرته وقواده والمقربين منه مساحاتٍ شاسعة من الأراضي. صحيحٌ أنه تزوج في شبابه من أمينة هانم وهي مطلقة ذات ثروة واسعة أنجبت له إبراهيم وطوسون وإسماعيل وابنتيه توحيدة ونازلي، وتفرغ لتجارة الدخان فربح منها، قبل أن يعود إلى الحياة العسكرية عندما أغار نابليون على مصر، غير أن الثروة الطائلة التي تركها بعد حكم مصر كانت في غالبيتها ثمرة سياسة الاحتكار وفرض الضرائب وإرهاق المصريين بالسخرة
لقد قام اقتصاد مصر أيام محمد علي، أساساً، على احتكار الزراعة، وتحجير الصناعة، وتوجيههما نحو تلبية احتياجات الجيش الذي تجاوز عدد أفراده ربع المليون، لتحقيق مغامرات خارجية مكلفة للغاية
ففي الزراعة، ألغى محمد علي عام 1808 نظام الالتزام حيث كان بعض الوجهاء وشيوخ القبائل يلتزمون بدفع الخراج والجزية للمماليك، مقابل قيامهم بتقسيم الأرض على جماعاتهم وأبناء قبائلهم لزراعتها. صادر محمد علي الأراضي الزراعية، ثم أقطعها لأفراد أسرته وخاصته وكبار موظفيه من أكراد وشركس وأقباط وشوام (أحمد عبد الرازق، النخبة البرلمانية في الصعيد، مجلة "منبر الشرق" ـ القاهرة، السنة الثالثة، العدد 15، سبتمبر أيلول 1994، ص 93-97) فوضع بذلك أساس الإقطاع الزراعي الذي ساد مصر بعد ذلك (عبد القادر السعدني، سنوات الهوان من محمد علي إلى فاروق، جريدة "السياسي المصري"، القاهرة، 3/12/2000، و17/12/2000)
وفي عام 1812، بدأ الاحتكار الحكومي لتجارة المحاصيل الزراعية ومصادرة أية كمية منها تباع خارج الأقنية الحكومية، وصارت الدولة تشتريها من المزارعين بأسعار احتكارية، ثم تبيعهم حاجتهم منها بأسعار أعلى
وقد أدى ذلك كله إلى سلسلة من الأزمات في المواد الغذائية، وعجز عن تلبية الاستهلاك المحلي) د. ذوقان قرقوط، جوانب غير معروفة من تجربة محمد علي باشا)، واستياء عام لدى الفلاحين، الذين كانوا سجناء قراهم لا يغادرونها أو يسافرون إلا بإذن كتابي من الحكومة. وكان الفلاحون يهربون من السخرة في مشروعات محمد علي أو من الضرائب المجحفة. وعلى سبيل الاحتجاج، أحرق فلاحو الصعيد محاصيلهم عام 1830 كي لا تقع في أيدي رجال محمد علي (أحمد عبد الرازق، النخبة البرلمانية في الصعيد)
وفي الصناعة، عندما احتاج محمد علي الموارد لتمويل الجيش، امتد احتكاره ليشمل الصناعات الوطنية القديمة، وخاصة منها صناعة الشموع من الشحوم، وصناعة الخشب والقصب، وتقطير ماء الورد، وصناعة السكر، ومعاصر الزيوت، وحياكة الأنسجة بالأنوال. وكان يطلق على الاحتكار الحكومي للصناعات لفظ "تحجِير"، ويشمل التحجير عدة عناصر رئيسة أبرزها: اختيار سلعة شائعة الاستعمال، واحتكار البيع بسعر يحدده المندوبون الحكوميون، وجمع منتجي تلك السلعة والمتجرين بها في كل مدينة على صعيد واحد، حتى يمكن إحكام المراقبة واجتناب الهرب، وإرغام مشايخ القرى والبلدان على شراء حصة من الإنتاج بالثمن المحدد
وقد لاقى تحجير الصناعة، كما هي الحال في احتكار الزراعة، استياءً عاماً من المواطنين، إلى درجة أن عمال مصانع النسيج في الصعيد مثلاً، قاموا في عام 1824، بإشعال النار في المصنع. وكان الفلاحون يعملون عنوة وبالسخرة في مصانع "الباشا"، فكانوا يفرون حتى إذا ألقت الشرطة القبض عليهم أعادتهم إلى المصانع ثانية. وكان الفلاحون يحتجزون في سجون داخل المصانع حتي لا يفروا، وكانت أجورهم متدنية للغاية وتُخصَمُ منها الضرائب
وفي مجال الضرائب، كانت الضريبة الشخصية أو "فرضة الرؤوس" أهم الضرائب، وكان ما يحصل منها عادة يشكل سدس إيراد الخزينة المصرية. فقد كان الذكور المراهقون كافة، ملزمين بدفع هذه الفرضة متى بلغوا الثانية عشرة من عمرهم، وهي تختلف تبعاً لتفاوت الناس في الثروة، وتعادل أجور عمل نصف شهر على الأقل. وكانت الضريبة الشخصية تحصل في المدن عن النفوس، وفي القرى عن المنازل، وكانت تتزايد بمعدل يكاد يكون دورياً لتغطية نفقات الحروب وإرضاء السلطان العثماني، وبحيث أنها ازدادت خلال 24 عاماً فقط (1820-1844) نحو 300%
وقد شكل ذلك عبئاً كبيراً على الفلاحين خاصة، لأنهم كانوا مسؤولين عن الضرائب بصورة جماعية، وبحيث أن القرية كلها كانت مسؤولة عن الضرائب المتأخرة، ومتضامنة مع غيرها من القرى المجاورة في المتأخرات من الأموال، بل إن هذا التضامن كان يمتد أحياناً ليشمل وادي النيل كله
ولعل ما زاد الطين بلة، تطبيق نظام السخرة، فقد كان الفلاحون يُستخدَمون إجبارياً، لحفر الترع وتطهيرها، وتقوية الجسور، وحراسة شواطئ النيل أثناء الفيضان. وكان يحق للدولة نقل عمال السخرة إلى أي مكان في مصر. وكانت السخرة تتم خلال تسعة شهور في السنة، وبلغ متوسط ماكان يساهم به كل فلاح من العمل بالسخرة شهرين من السنة
وفي كتاب "ثروة الأمم وفقرها"، للمؤرخ وعالم الاقتصاد ديفيد لاندس
(David S. Landes, The Wealth and Poverty of Nations: Why Some Are So Rich and Some So Poor, Norton, US)
نقرأ أن محمد علي قد واجه مشكلة الطاقة البشرية والعمال المؤهلين، فاستخدم في البداية العمال العبيد من دارفور وكردفان، وكان هؤلاء يموتون بالجملة بسبب الظروف السيئة. ثم لجأ محمد علي إلى عمال السخرة ينتزعهم من بين أسرهم، وهو ما كان يدفع بعض هؤلاء العمال إلى تشويه نفسه لتجنب الخدمة، أو إلى تخريب الآلة التي يعمل عليها (شوقي رافع، الطغاة يجهلون الجغرافيا، مجلة "العربي"، الكويت، العدد 478، سبتمبر أيلول 1998، ص 80 -85)
يقول الشيخ محمد عبده في إطار تقييمه لتجربة هذا الحاكم: "ما الذي صنع محمد علي؟.. لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت، كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش، وبحزب آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه. وهكذا، حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأساً يستقر فيه ضمير (أنا)، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مراراً، حتى فسد بأسُ الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على من بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يُبقِ في البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان، فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، وكأنه كان يحنُ لشبهٍ فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فسحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال، ليصير البلاد المصرية جميعاً إقطاعاً واحداً له ولأولاده"
من هنا فقط يمكن أن نفهم موقف المصريين من محمد علي باشا الذي ظل حاكماً حتى أصيب بالخرف فتنازل عن العرش في سبتمبر أيلول 1848 قبل أن يتوفى في الإسكندرية في 2 أغسطس آب 1849. إن محمد علي باشا الذي رحل عن عالمنا عن عمر يناهز الثمانين، لم يحضر جنازته سوى حفنة من القناصل الأجانب ولم تغلق المحال أبوابها، كما هي العادة في مثل هذه الظروف، فنقل جثمانه من الإسكندرية إلى القاهرة عبر النيل وحيداً، ودفن في جامعه بالقلعة وفي مصر، يصنع المال المنهوب والأملاك المصادرة ونهج الاحتكار والاحتقار، سداً عالياً بين الحاكم والمحكوم